وفى الفرنسيون بوعدهم. الأول من أيار كان يوماً صاخباً. عمّت التظاهرات كلّ المدن الفرنسيّة. فاق عدد المشاركين فيها عشر مرّات تقريباً الأعداد المشارِكة في تظاهرات 2022. فقد بلغ عدد المشاركين 2.3 مليون في فرنسا بحسب النقابات، و800 ألف بحسب الشرطة. التظاهرة الكبرى كانت في العاصمة باريس، كالعادة، والعنف أيضاً. قنابل مولوتوف ضدّ رجال الشرطة. إضرام للنيران في مبانٍ. اعتداء على الأملاك العامّة والخاصّة. في المقابل استعمل رجال الشرطة خراطيم المياه وقنابل الغاز المسيّلة للدموع لتفريق المتظاهرين المشاغبين. واستعملوا الهراوات بقوّة وبقسوة. مشاهد ذكّرت بـ “ربيع بيروت” الذي لمعت بشائره في ذاك السابع عشر من تشرين الأول 2019، على الرغم من أنّ المواقف متناقضة. في فرنسا تقوم السلطة بإصلاحات يرفضها الشعب. في حين أنّ الشعب اللبناني نزل إلى الشارع يطالب بإصلاحات (إضافة إلى محاربة الفساد) ترفض إجراءها السلطة السياسيّة حتى اليوم.
حصيلة الأول من أيار الفرنسي كانت كبيرة: جرح 406 من رجال الشرطة وتوقيف 540 متظاهراً. سياسياً، الحصيلة أيضاً كبيرة. لقد نجحت النقابات في تنظيم حشود شعبيّة ربّما هي الثانية بحجمها منذ بدء الاحتجاجات الشعبيّة ضد قانون التقاعد الجديد التي بدأت مع بداية العام (اليوم الأكبر كان في نهاية شهر كانون الثاني حين شارك 1.3 مليون بحسب الشرطة). سجّلت النقابات نقطة، مقابل النقطة التي سجّلها الحُكم حين أقرّ المجلس الدستوري القانون بغالبيّة بنوده في 14 نيسان، ووقّعه ونشره الرئيس في الليلة ذاتها. ولكنّ المعركة مستمرّة. الجولة المقبلة ستكون جولة حوار بين الحكومة والنقابات. فقد أعلنت إليزابيت بورن أنّها ستوجّه دعوة للنقابات للحوار في قصر ماتينيون (مقرّ الحكومة). وهي الدعوة التي كان قد وجّهها الإليزيه عشيّة كلمة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الفرنسيين قبل أسبوعين ورفضتها النقابات. هنا النقابات نقابية بالفعل وليس بالاسم. لا تخاف السلطة السياسيّة ولا تخشاها. فهي ليست تابعة لرئيس ولا لزعيم حزب سياسيّ.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يواجه تحدّي فكّ الطوق عن ولايته الثانية التي ما تزال في بدايتها، ولديه العديد من “الإصلاحات البنيوية” ينوي القيام بها
تحدّيات ما بعد 1 أيّار
تحدّيات كثيرة تنتظر النقابات والحكومة وعهد ماكرون بعد 1 أيار.
1- النقابات تواجه تحدّي الوحدة. وهو تحدٍّ بدأ الكلام عنه عشيّة يوم 1 أيار، خاصّة أنّ لوران بيرجه، رئيس الاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل، أعلن أنّه سيقبل دعوة رئيسة الحكومة للحوار. في حين أعلنت سوفي بينيه، رئيسة الاتحاد العمّالي العامّ، أنّ النقابات كانت قد اتّفقت على اتّخاذ كلّ القرارات، سواء للمشاركة في أيّ حوار أو في تنظيم الإضرابات والتظاهرات، بالتشاور فيما بينها! تحدّي الوحدة النقابية سيرافق الحوار مع الحكومة إذا ما قبلت المشاركة فيه كلّ النقابات.
2- الحكومة أيضاً تواجه تحدّيات كبيرة. أوّلها فكّ الطوق الشعبي الذي أحكمته عليها النقابات والأحزاب المعارضة. وثانيها التوفيق بين قانون التقاعد الذي وقّعه الرئيس وترفضه النقابات، خاصّة أنّها ترفض البند الأساس فيه، وهو رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64.
3- الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يواجه تحدّي فكّ الطوق عن ولايته الثانية التي ما تزال في بدايتها، ولديه العديد من “الإصلاحات البنيوية” ينوي القيام بها. ويواجه تحدّي استعادة شعبيّته التي هبطت إلى مستويات دنيا. فبحسب آخر استطلاعات الرأي (نيسان 2023) 28% من الفرنسيين يؤيّدون رئيسهم وسياساته، و23% منهم فقط يؤيّدون رئيسة الحكومة إليزابيت بورن.
4- تشير استطلاعات الرأي هذه إلى الهوّة الكبيرة بين الشعب والسلطة السياسية والتي تضع فرنسا أمام تحدّي المصالحة بينهما. وقد أعلن ذلك فرانسوا بايرو، رئيس حزب الوسط، بقوله إنّ فرنسا تدخل “مرحلة جديدة تتميّز بالحاجة إلى المصالحة بين الشعب والسلطة”. وأضاف أنّ “الفرنسيين لا يتحمّلون قرارات تُتّخذ بعيداً عنهم أو بدونهم”، في إشارة إلى لجوء الحكومة إلى القانون 49.3 الذي أقرّت بموجبه قانون التقاعد الجديد.
موعد 8 حزيران
الكلّ في فرنسا، الشعب والنقابات والحكومة والبرلمان، على موعد جديد في 8 حزيران المقبل. ففي هذا اليوم ستجتمع الجمعية الوطنيّة للتصويت على اقتراح قانون يلغي قانون التقاعد الذي أقرّته الحكومة. نتيجة التصويت غير محسومة بالنسبة للمعارضة ولا لفريق الرئيس الفرنسيّ. فالتصويت على سحب الثقة من الحكومة (20 آذار) سقط بفارق تسعة أصوات فقط. لذلك يتهيّب فريق الحُكم التصويت المقبل. في المقابل تعوّل المعارضة والنقابات على نجاحها في إسقاط القانون. وهي سترافقه حتماً بيوم إضراب عامّ كبير ستتخلّله تظاهرات في كلّ المدن الفرنسيّة، خاصّة أنّه يوافق يوم خميس، وهو اليوم الذي اعتمدته النقابات للدعوة إلى الإضرابات والتظاهرات كلّ أسبوع منذ بداية العام.
إقرا أيضاً: أزمة قانون التقاعد تابع.. فرنسا على موعدين: 1 أيّار و14 تمّوز
تقرير “فيتش”
ليس بعيداً ممّا يجري في الداخل الفرنسيّ، صدر تقرير وكالة “فيتش” الذي أعلن تراجع تصنيف فرنسا الائتماني من “إي إي” (AA) إلى “إي إي سلبي” (AA-). والسبب يعود إلى “عجز كبير في الميزانية وتقدُّم بسيط” في مجال خفضه، بعد ثلاث سنوات من الإنفاق العامّ الكبير بهدف الحدّ من أزمتَي كوفيد-19 والتضخّم. وأشار تقرير الوكالة إلى الأزمة السياسيّة التي تمرّ بها البلاد والتحرّكات الاجتماعية التي تشكّل خطراً على مشروع ماكرون الإصلاحي الذي لا ينحصر في رفع سنّ التقاعد، إنّما سيطال نظام العمل والنظام الاجتماعي والإنفاق العامّ في التعليم والصحّة وغيرهما من القطاعات.
تقرير “فيتش” لا يعني أنّ الاقتصاد الفرنسي في أزمة خطيرة. فعلامة “إي إي” تعني أنّ الديون الفرنسية “ذات جودة جيّدة جدّاً”، وما تزال مرغوبة من المستثمرين وآمنة بالنسبة لهم، على الرغم من ارتفاع الدين العامّ إلى مستويات غير مسبوقة (111.6% من الدخل القومي 2022)، وتراوُح نسبة العجز بين 5% و6%.
وزير المال برونو لومير طمأن إلى أنّ الحكومة مستمرّة في “تمرير إصلاحات هيكليّة للبلاد”. فهل تنجح في ظلّ معارضة شعبيّة كبيرة وطلاق شبه كامل بين الحكومة والشعب ورئيس لا يمكنه لقاء شعبه من دون سماع صرخات تدعوه إلى الاستقالة على وقع قرقعة الطناجر؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@