هل يفلت السودان من فخّ الحرب الأهليّة؟

عندما استيقظ السودانيون في العاصمة الخرطوم قبل ما يزيد عن أسبوع على أزيز الطائرات المقاتلة وأصوات الأسلحة الثقيلة لم يكن ذلك مفاجئاً بالنسبة لهم وإن كان مؤلماً ومخيفاً، فكلّ المؤشّرات كانت تقول إنّ هناك مواجهة مؤجّلة بين طرفَي المكوّن العسكري في البلاد الجيش وقوات الدعم السريع، وزادت احتمالاتها بعد التغيير الذي حدث في السودان في نيسان من عام 2019، والذي قضى بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير، وكان سبباً في صعود قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي إلى قمّة القيادة السياسية في البلاد بعدما أصبح نائباً لرئيس المجلس العسكري مع احتفاظه في الوقت نفسه بقيادة قوات الدعم السريع.

مناجم الذهب والتحالف مع الإمارات..

لم تكن قيادات الجيش مرحّبة بقوات الدعم السريع التي تمّ تكوينها في عام 2013، لكنّ وجود البشير على رأس الجيش ورعايته لهذه القوات خلقا نوعاً من التعايش بينهما. ومنذ غياب البشير وصعود حميدتي إلى موقع الرجل الثاني في الدولة استغلّ هذا الأخير موقعه وعمل بدأب على تمكين قوّاته التي تضاعفت إلى أكثر من مئة ألف مقاتل بعدما كانت حوالي ثلاثين ألف قبل أربع سنوات حينما تمّت الإطاحة بالنظام السابق. وقد أتاح استمرار قوات حميدتي بالقتال في اليمن ومشاركتها في عاصفة الحزم للرجل فوائد اقتصادية وبناء علاقات إقليمية قويّة، خاصة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ومكّنته سيطرته على جبل عامر الغنيّ بالذهب غربي السودان من بناء إمبراطورية اقتصادية تمتلك عدداً من المصارف والشركات وبعض أجهزة الإعلام، ورويداً رويداً تضخّمت طموحات حميدتي فمدّ حبال التواصل إلى روسيا وقام بزيارة لها قبل يوم واحد من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وما تزال تلاحقه الاتّهامات المحلية والدولية بالتعاون مع قوات فاغنر الروسية، خاصة في ملفّ تهريب الذهب.

لم تكن قيادات الجيش مرحّبة بقوات الدعم السريع التي تمّ تكوينها في عام 2013، لكنّ وجود البشير على رأس الجيش ورعايته لهذه القوات خلقا نوعاً من التعايش بينهما

بينما تجري كلّ هذه التطوّرات كانت النخبة العليا في الجيش تتململ احتجاجاً على تحرّكات حميدتي وطموحاته التي ترى فيها تهديداً للأمن القومي السوداني نظراً لارتباطات حميدتي الإقليمية وتطويره منظومة عسكرية موازية للجيش ومستقلّة عن تراتبيّته المعروفة وتجاوزه قانون الدعم السريع الذي يجعلها قوات تابعة للجيش. وقد نفّذ ضبّاط من الجيش أكثر من محاولة انقلاب احتجاجاً على ما يرونه تساهلاً من قائد الجيش الفريق أول عبدالفتّاح البرهان مع حميدتي وطموحاته اللامحدودة، وكانت أشهر هذه المحاولات محاولة مجموعة اللواء بكراوي الذي يحاكَم حالياً، التي نجحت ولم يبقَ إلا إذاعة بيانها، لكنّ الضبّاط أوقفوا المحاولة من تلقاء أنفسهم وطلبوا التحدّث مع البرهان وإبداء تذمّرهم من تمدّد قوات حميدتي. وممّا يجدر ذكره في هذا الإطار أنّ هؤلاء الضبّاط الذين تجري محاكمتهم طلبوا السماح لهم بالمشاركة في الاشتباكات التي تدور حالياً ضدّ قوات حميدتي وسُمح لهم بذلك.

تملّك حميدتي إحساس بأنّ قيادة الجيش تقف عقبة أمام طموحاته، واقتنع بأنّه لا بدّ من إزاحة تلك القيادة، وعندئذٍ التقت مصالح حميدتي مع مجموعة قوى الحرّية والتغيير – المجلس المركزي المدعومة غربياً والساعية إلى الانفراد بالسلطة، لكن رأت هي أيضاً أنّ الجيش بدعوته المتكرّرة إلى توسيع قاعدة القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية يقف ضدّ رغباتها السلطوية. وبناء على قاعدة المصلحة المشتركة قام تحالف بين هذه المجموعة السياسية وحميدتي كان شرطه إعادة هيكلة الجيش السوداني ودعم ما سمّوه الانتقال الديمقراطي ودعم الاتفاق الإطاري الذي تدعمه المجموعة الرباعية التي تضمّ الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، السعودية، والإمارات، وهو اتفاق فضفاض تحاول عبره قوى الحرّية والتغيير العودة إلى السلطة.

الشعب مع الجيش

 بالنظر إلى سير المعارك حاليّاً يبدو واضحاً أنّ حميدتي، ربّما مغترّاً بقوّته العسكرية وسطوته الاقتصادية، لم يقرأ المشهد جيّداً. فعلى الرغم من عدد قوّاته الكبير إلا أنّ الجيش يتفوّق عليه بسلاح الجوّ والدبّابات، وهي أسلحة حاسمة في المعارك والحروب، وبفضلها استطاعت القوات المسلّحة تدمير أنظمة القيادة والسيطرة ونظم الاتصال لحميدتي، إلى جانب تدمير معسكراته الرئيسية في الخرطوم وبقيّة الولايات. ونتيجة لذلك صارت قواته الباقية تتحرّك من دون توجيه قيادي يضمن لها التنظيم والدقّة في الحركة، وتحوّلت إلى جزر معزولة تقاتل داخل الأحياء وتهدّد حياة المدنيين، وهو ما زاد من الغضب الاجتماعي عليها وجعلها تبدو جماعات معتدية تقوم بالنهب والسلب، بينما يقاتل الجيش وسط حاضنة اجتماعية متعاطفة معه وداعمة له.

 بعد مضيّ ستّة أيام من اندلاع المواجهات يبدو أنّ الجيش مستفيداً من تفوّقه النسبي بفضل الطائرات والدبّابات قد حقّق جزءاً من أهدافه من العملية. فوفق حساب النقاط استطاع تدمير البنية التحتية لقوات حميدتي، وحوّلها إلى قوات متمرّدة بعدما أصدر قائد الجيش قراراً بحلّها، وفقدت تعاطف الشعب السوداني لبدئها الحرب واعتدائها على مقارّ الجيش، إلى جانب أنّ بعض المعلومات التي بدأت تكشف أنّ تحرّك هذه القوات يهدف إلى القيام بانقلاب عسكري بدعم من قوى إقليمية ودولية وبمساندة أطراف سياسية صغيرة بالداخل في محاولة لفرض مشروعها السياسي بالقوّة على السودانيين، قد زادت من التفاف المواطنين حول الجيش ودعوتهم إيّاه إلى حسم تمرّد هذه القوات. هذه التطوّرات الإيجابية بالنسبة للجيش هي التي جعلته يتمسّك بموقفه الرافض وقف إطلاق النار وبعدم التفاوض مع من وصفهم بالمتمرّدين على سلطان الدولة.

بتقويم عامّ لمجريات العملية العسكرية، وبالنظر إلى القدرات العسكرية التي يمتلكها الجيش، يرجّح أن تنتهي العملية إلى تفكيك قوات حميدتي في النهاية، حتى لو طال ذلك الأمر

لا يمكن قراءة موقف الجيش بمعزل عن بعض التطوّرات الإقليمية والدولية التي سبقت اندلاع هذه الأحداث. فقد كانت زيارة حميدتي لروسيا محلّ انزعاج وقلق لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية على السواء، حتى إنّ سفراء الدول الأوروبية في الخرطوم تقدّموا حينها بمذكّرة إلى وزارة الخارجية السودانية يستفسرون فيها عن طبيعة تلك الزيارة وأهدافها، ولاحقاً تسرّبت أنباء عن تعاون حميدتي مع قوات فاغنر الروسية في دولة إفريقيا الوسطى وتورّطها في الشأن الداخلي هناك. هذا وشكا الرئيس التشادي للبرهان من محاولة حميدتي تغيير نظامه بالقوّة العسكرية.

ولّدت تحرّكات حميدتي هذه مخاوفَ من طموحاته لدى جهات إقليمية ودولية. وعلى الرغم من انحيازه أخيراً إلى قوى الحرّية والتغيير التي يدعمها المبعوث الأممي فولكر بيرتس، إلا أنّ من غير المرجّح أن تكون الولايات المتحدة الأميركية، أبرز اللاعبين في المشهد السوداني الذي يعيش تدخّلاً غير مسبوق في شؤونه الداخلية، قد نسيت لحميدتي تصريحاته عقب عودته من روسيا عن القاعدة الروسيّة على البحر الأحمر وتلميحاته إلى إحياء الاتفاق حولها بعدما جمّده الجيش السوداني.

الدعم السريع يحتمي بالمدنيين

بتقويم عامّ لمجريات العملية العسكرية، وبالنظر إلى القدرات العسكرية التي يمتلكها الجيش، يرجّح أن تنتهي العملية إلى تفكيك قوات حميدتي في النهاية، حتى لو طال ذلك الأمر مع اتّخاذ تلك القوّات تكتيك الاحتماء بالمدنيين لتقليل كفاءة استخدام سلاح الجوّ ضدّها، لكن لا يُتوقّع أن يستمرّ صمودها مع نفاد ذخيرتها وفقدانها لخطوط إمدادها المنتظمة، بينما يحافظ الجيش على قدراته ويعمل على حشد مزيد من القوات من الولايات الأخرى، واستدعاء قوات هيئة العمليات العالية التدريب وذات الخبرة في حرب المدن التي سبق أن تمّ تسريحها بعد تغيير النظام السابق.

إقرأ أيضاً: صراع العسكر في السودان.. إلى أين المصير؟

ما يخشاه المراقبون هو تحقُّق سيناريو آخر يطول فيه أمد العمليات العسكرية فينفتح الباب أمام تدخّلات خارجية وجماعات داخلية كي تعمل على إعادة تنظيم قوات حميدتي وتقديم الدعم العسكري واللوجستي لها، لكن لا يبدو أنّ هذا السيناريو سهل بعد تفكيك المنظومة القيادية للدعم السريع والنجاح حتى الآن في عزلها مجتمعياً والنظر إليها على أنّها قوات متمرّدة. يُضاف إلى ذلك أنّ ارتباط تلك القوات بشخصيّتَي حميدتي وشقيقه عبدالرحيم وفقدانها للبناء المؤسّسي والتراتبية العسكرية يجعلان أمر تفكيكها الخيار الراجح في حال غياب أيّ منهما عن المشهد، فهذان العاملان يسهّلان الخيار الأول المتمثّل في تحقيق القوات المسلّحة انتصاراً حاسماً حتى لو تأخّر إنجازه.

*وزير الدولة للإعلام السابق في السودان ودكتور في القانون المقارن

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…