فتح المرونة والعقلانيّة والاعتدال… ماضياً وحاضراً

مدة القراءة 5 د


قادت فتح، في زمن ياسر عرفات، الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، منذ دخول أوّل فدائي حتى الخروج الأخير لعرفات منه. وإذا ما قرأنا مرحلة التأسيس الأولى لحركة فتح، فإنّ لبنان لم يكن ساحة حيويّة للانطلاق والعمل وحسب، بل كان مؤسّساً مباشراً من خلال لبنانيين أقحاح تجاوزوا حدود “التضامن الأخويّ” أو الدعم واندمجوا في الفكرة والإطار والعمل.

مع كثافة الوجود الشعبي الفلسطيني، الذي انتشر على الجغرافيا اللبنانية شمالاً ووسطاً وجنوباً، تكرّس الوجود المسلّح على نحو استحال إنهاؤه، بل تأكّد بشرعية حكومية لبنانية من خلال اتفاق القاهرة في عام 1969، الذي أنتج ما سمّي بـ”فتح لاند”.

غير أنّ هذا التكريس وما حظي به من شرعية حكومية، لم يمنع من ظهور معارضة فعّالة لهذا الوجود، وهو ما فتح أبواباً واسعة لاقتتالات من كلّ نوع، حتى إنّه قيل: “الجميع اقتتل مع الجميع”، فتحوّل لبنان إلى ساحة حرب مركّبة بُذلت من أجل وقف تمدّدها جهود محلية وإقليمية ودولية إلا أنّها جميعاً باءت بالفشل.

كان الوجود الفلسطيني المسلّح العنوان المتداول للاقتتال أثناء وجوده وتوسّعه. وعلى الرغم من وجود حلفاء وشركاء لبنانيين له، إلا أنّ جهداً دولياً وإقليمياً جماعياً تبلور لإخراجه عبر جراحة جذرية قام بها الجيش المؤهّل لدور من هذا النوع، وهو الجيش الإسرائيلي.

قادت فتح، في زمن ياسر عرفات، الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، منذ دخول أوّل فدائي حتى الخروج الأخير لعرفات منه

عرفات، “قائد التجربة”، غادر لبنان مرّتين:

– الأولى من مرفأ بيروت تحت حراسة الأسطول السادس الأميركي، وبترتيبات من الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب.

– والثانية من طرابلس بجهد فرنسي مصري مشترك، ولا يخلو الأمر من مباركة أميركية.

عرفات ومعادلة القوّة

لأنّ معادلة القوّة الفلسطينية كان رقمها عرفات، وحيث وُجد وُجد مركزها وعقلها ومركز فاعليّتها، فقد انتقل الفعل الفلسطيني السياسي الرئيس إلى الخارج، والجميع يعلم باقي الحكاية من المنفى التونسي الأخضر إلى العودة إلى الوطن على جناح اتفاق أوسلو.

ولأنّ ذلك حدث على مدى عقود خلت، فالتذكير به يبدو مفيداً. فالإضاءة على الماضي تنير الحاضر وما يحدث فيه.

لم يكن الوجود الفلسطيني المسلّح وتغلغله في الحياة اللبنانية بالجملة والتفصيل نموذجيّاً ومفهوماً ومحميّاً تماماً. لم تنفع مقولة لبنان الممرّ وليس المستقرّ في تفسيره وتجديد شرعيّته، إلا أنّ إدارة وجوده الملتبس التي قادها ياسر عرفات، كانت ناجحة إلى حدّ كبير. ليس بفعل القوّة العسكرية الهائلة التي بُنيت على أرض لبنان كلّه. فعلى أهميّتها وأساسيّة دورها، كانت في المرتبة الثانية بعد القوّة التحالفيّة التي انتشرت داخل النسيج اللبناني، ومع محيطه الإقليمي والدولي. كان العرب جميعاً، باستثناء التحفّظ السوري، يدعمونه ما دام بعيداً عن بلدانهم. أمّا أميركا وأوروبا فكانتا تتعاملان معه كقوّة أمر واقع تصلح للترويض أكثر ممّا تصلح للاقتلاع.

حين يخرج عرفات من قلب الساحة، تضعف الأطراف. وأينما وُجدت الثورة الفلسطينية وحركة فتح وعرفات يتقرّر مصير الحالة

أمّا إسرائيل فكانت تتعامل معه بطريقتها المفضّلة: العمليات العسكرية المحدودة التي ستعود في نهاية الأمر إلى عملية شاملة وحاسمة.

حين يخرج عرفات من قلب الساحة، تضعف الأطراف. وأينما وُجدت الثورة الفلسطينية وحركة فتح وعرفات يتقرّر مصير الحالة. حين كانت حركة فتح وعرفات على أرض الحالة كان الجميع، الأصدقاء والخصوم، يجدون من يتحدّثون معه، ويتوصّلون إلى تفاهم معه تضمنه المرونة وحسن استخدام القدرات. وهذه الخاصيّة لم تعد متيسّرة الآن، لا في لبنان ولا في أيّ مكان.

فتح المرونة والعقلانيّة

بوسعك أن تقول ما تشاء عن تلك المرحلة اللبنانية الفلسطينية العرفاتيّة، إلا أنّ ما يشبه الإجماع في الرأي والتحليل والخلاصات يقود دوماً إلى أنّ “فتح” كانت الأكثر عقلانية في التعامل مع الأطراف اللبنانية، المقاوِمة لها والمتحالفة معها. وإذا كانت تؤدّي أدواراً تنطوي على خطأ أو خطيئة، فكانت تذهب إليها مكرهة، بفعل محدودية قدرتها على ضبط تيار الأجندات المتصارعة، وما تقود إليه من مجازفات ومخاطرات تصل حدّ إشعال حرب.

لقد ورثت “فتح” هذا النهج حين بقيت في لبنان بعد مغادرة رجل المركز والقرار. لم تستطع فرض إرثها كما يجب على الأرض ليس بقرار ذاتيّ منها، وإنّما بفعل المستجدّات التي حرمتها مكانة القوّة المركزية المقرِّرة حيثما وجد فلسطينيون.

أخيراً يشكّل ضعف “فتح” في المركز والأطراف ضعفاً أكيداً للعقلانية والاعتدال وضعفاً للمرونة البنّاءة، حتى إنّه ضعف للحدود الدنيا من مقوّمات الحياة للمخيّم خارج الوطن، ولكلّ ما هو على أرض الوطن.

إقرأ أيضاً: 4 آب وعين الحلوة والفدراليّة: مسؤوليّة الحزب

لهذا كانت مقتلة عين الحلوة درساً، وإن كانت ضروريّةً معالجتها موضعيّاً بحكم الحاجة الملحّة، فإنّها تدعو إلى معالجة حال “فتح” من الأساس.

على الرغم من كلّ الانتكاسات والتراجعات والانقسامات والانشقاقات تظلّ “فتح” الفكرة والثقافة والمنهج مصلحةً فلسطينيةً أساسيةً وعربيةً ودولية، وفاعليّتها ينبغي أن تنطلق من ذاتها، وما أكثر ما يتعيّن على “فتح” أن تفعل، كي تستعيد نفوذها أوّلاً على أرض مشروعها الأساسي فلسطين، ولتستعيد حضورها الفعّال حيثما وُجد فلسطينيون، ودون ذلك تكون مقتلة عين الحلوة حلقة في سلسلة وحسب، وهذا ما لا يريده اللبنانيون قبل الفلسطينيين.

مواضيع ذات صلة

3 عبارات قالها لاريجاني ولم تُنشر!

من قال إنّه لا يمكن التعلّم من العدوّ؟ بل على العكس. أهمّ الدروس تكون غالباً مستخلصة من مراقبة العدوّ، خصوصاً بعد معركة، وبالأخصّ بعد ما…

الحزب فتح باب التّغيير: “الدّولة” و”الطّائف” بلا سلاح

يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024 سيكون يوماً استثنائياً، حتّى لو لم يتمّ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار، لأنّ الأمين العامّ للحزب الشيخ نعيم قاسم…

7 أعمدة في قمّة الكويت الخليجيّة السّابعة

وسط أمواج مُتلاطمة وتحدّيات ضخمة آنيّة ومستقبلية تواجه المنطقة، تنعقد القمّة الخامسة والأربعون لقادة دول مجلس التعاون الخليجي بالكويت في أول أيام شهر كانون الثاني…

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….