لبنان بين عجزَيْن: محلّي سلبيّ… وفرنسيّ الأطماع

مدة القراءة 8 د


وُضع الملفّ اللبناني في ثلّاجة موفد الرئيس الفرنسي جان إيف لودريان. أُرجئت المداولات والمعالجات الرئاسية إلى شهر أيلول ريثما ينهي لودريان عطلته الصيفية في آب. ففُتحت الأبواب أمام المزيد من المشاورات الدولية والإقليمية والعربية، إفساحاً في المجال للتروّي والاستفادة أكثر من كلّ المناخات التقاربيّة والاتفاقية.

هكذا أُدخلت الأزمة اللبنانية غرفة الانتظار الباردة. تشبه هذه المدّة مراحل الثبات السريريّ الضروري والمطلوب والمؤسّس للتفاهم، أكثر من كونها وقتاً ضائعاً، وتتزامن هذه الفترة مع عجزين اثنين:

عجز محلّي سلبيّ: يتمثّل في قصور الساحة السياسية والمحلية في لبنان عن الوصول إلى حلول ذاتية وتوافقات داخلية بحتة، وفي عدم نجاحها في تمرير أيّ استحقاق، وهو ما زاد من مساحات “الفراغ” في الإدارات الأساسية، مع فشل مشهود لهاتين الطبقة والسلطة السياسيّتَيْن في إنتاجهما لنفسَيْهما، وتأمين سبل مداولة السلطة واستمرارية دورة الحكم في النظام السياسي، ترافق معه بروز سلّة من الاستقطابات الشرسة والانقسامات العمودية النافرة لكلّ توافق.

عجز دوليّ إيجابيّ: يتجلّى في إخفاق المجتمع الدولي إلى الآن في الوصول إلى نتيجة حكيمة وحلّ في لبنان. فشل كليّاً في الضغط الجدّي على كلّ من الطبقة السياسية وأصحاب المصلحة في لبنان بفعل العديد من التناقضات والتباينات والاختلافات الناتجة جميعها عن قراءة مختلفة بحسب الأولويّات لكلّ دولة وطرف ولاعب مؤثّر. على الرغم من ذلك تفوح رائحة الإيجابية، إذ ما تزال هذه الأطراف الصديقة والحليفة للبنان مصرّة على مساعدته، وتعدّه أولوية على الرغم من كلّ المشاكل الكونية. تعتبره جزءاً مهمّاً من الإجماع الدولي والاستقرار العالمي وممرّاً أساسيّاً وإلزامياً لإنجاح التوافقات الشرق أوسطية والدولية.

ينظر كلّ من الحزب والتيار الوطني الحرّ بلهفة مختلفة إلى مرحلة ما بعد الرئاسة وما فوق الطائف. يصرّان على التغيير في الصيغة وتوازناتها

تصلّب الحلفاء

تشبه هذه الفترة الزمنية مرحلة تقديم الرئيس نبيه برّي “لبن العصفور” إلى الرئيس سعد الحريري قبل اعتكافه وتعليقه العمل السياسي، إذ يجتهد الحزب في محاولات إغراق حليفه المدلّل التيار الوطني الحرّ ورئيسه في الوعود، فيستميله عبر إغداق المزيد من الضمانات والهدايا والمكرمات الشبيهة بلبن العصفور. يحاول الحزب بكلّ السبل إقناع حليفه وثنيه عن تصلّبه في الملفّ الرئاسي. فيما يسعى التيار الوطني الحر أكثر وراء المزيد من المكتسبات والأرباح من العهد المقبل الميمون. فهو لطالما كان يبرع كثيراً في التجارة السياسية وفي بازار التفاصيل.

باسيل يناور ويريد مكاسب

يتصلّب الوزير السابق جبران باسيل بوجه الحزب متمسّكاً وملتصقاً باللامركزية الإدارية والمالية، مع يقينه التامّ بعدم قبول الحزب والثنائي بها. فيما يتشدّد الحزب بموقف مزدوج بوجه شريكه محلّياً مع إبقائه على إيجابية الحوار لتوسيع كوّة التفاهم على حلّ. يعسّر الحزب موقفه إزاء فرنسا بشكل مباشر. يحاول مزاحمتها بعد تراجعها عن مساعيها الرئاسية الفردية السابقة، فيتشبّث بشدّة بمرشّحه الرئاسي الوزير السابق سليمان فرنجية مع تشجيعه المستمرّ على “حوار الضرورة الرئاسي”، الذي يسعى باطنياً من خلاله إلى فرض مرشّحه، أو حتى إضاعة الوقت تسهيلاً لمكتسبات ما فوق الرئاسة في النظام اللبناني.

ينظر كلّ من الحزب والتيار الوطني الحرّ بلهفة مختلفة إلى مرحلة ما بعد الرئاسة وما فوق الطائف. يصرّان على التغيير في الصيغة وتوازناتها. لم يفهما بعد أنّ ذلك غير مسموح دولياً ولا عربياً. فأمر الصيغة غير مطروح للنقاش أبداً. بعد أن أضحت جمهورية التيار الوطني الحرّ الأولى غير مرحّب بها ومن الماضي. فيما بات سلاح الحزب وتغوّله وفائض قوّته خارج المعادلة المحلّية، ومن غير المقرّر صرفه داخل الدولة والنظام لأنّه إقليمي ودولي فقط.

يتساهل الحزب مع التقارب السعودي – الإيراني وإجماع البيان الخماسي والمناخات السلمية وأجواء الحوار الأمنية والاستراتيجية، ولا وجود لأيّ حرب واقتتال ولا حتى مهاجمة للعرب ما عدا الخطاب الأخير للأمين العام للحزب. لكنّه يستعمل الساحة اللبنانية المحلّية كما يريد بشكل مستتر. وما الأحداث الدائرة في مخيّم عين الحلوة حالياً إلا جزء من هذه الرسائل المحلّية التي يطلقها باتجاه العرب والغرب في آن. يتصلّب في الملفّ الرئاسي اللبناني ويتشدّد داخل الساحة المحلية بهدف الوصول إلى ما يصبو إليه.

لمس الحزب بشكل كامل تبدُّل المسعى الفرنسي على الرغم من استمراره بالمبادرة. أصبحت فرنسا جزءاً من إجماع البيان الخماسي في الدوحة. تخلّت عن قديمها، من دون خطوات وحركيّات فردية وبهلوانية. أضحت تتبنّى الحلّ، وتعمل عليه وفق البيان الثلاثي ومسوّدة الإصلاحات والمواصفات. فيما يستمرّ الحزب في سعيه إلى تطبيق اتفاق الطائف على مزاجه، فيدعمه ويؤيّده في السياسة ويمارس الفعل في الواقع على طريقته. وهو يبحث عن “ترويكا” جديدة توفّر له الضمانة ريثما يصل في النهاية إلى هدفه الحقيقي.

تحاول فرنسا التعويض عن انحسار نفوذها في المنطقة الإفريقية من خلال توسيعه في الشرق الأوسط ابتداء من بوّابته اللبنانية، مع تنامي قوى دولية مختلفة تملأ الفراغ

تشبُّه الرئيس ماكرون بالرئيس بايدن

تأثّر الرئيس الفرنسي ماكرون بسياسة الرئيس الأميركي جو بايدن. . انسحبت أميركا من أفغانستان في شهر آب من عام 2021، فلحقتها فرنسا وانسحبت من شمالي إفريقيا وأنهت عملية برخان في 15 كانون الأول من عام 2022. ثمّ جنح ماكرون ناحية أسلوب الرقص المنفرد في الملفّ اللبناني. سجّل في ذلك سابقة فرنسية. كان ذلك تحوُّلاً ظرفياً عن السياسة الفرنسية الطبيعية وخروجاً عن مألوفها. اعتبره كثر انقلاباً في هيكل السياسة الخارجية الفرنسية التي تخلّت عن قوى الاعتدال اللبنانية المؤسّساتية والسيادية. اتّبع ماكرون في ذلك نفس النهج السياسي الخارجي للرئيس بايدن في تفضيله سياسة التحالف مع الأقلّيات، وتسكين قوى الاعتدال والأغلبية والضغط عليها بهدف تمرير بعض المصالح الخاصة. سعت فرنسا وراء صفقة في لبنان مع الثنائي الشيعي موليةً ظهرها لقوى المعارضة بحجّة عدم تضامنها، تماماً كما يجتهد بايدن من أجل إحياء صفقة نووية جديدة مع طهران مديراً ظهره لقوى الاعتدال العربي حلفاء أميركا الاستراتيجيين.

ظهرت متغيّرات كبيرة في وقت قصير عبر السعودية الجديدة. تتحدّى المملكة السعودية نفسها، وتتفوّق على ذاتها كلّ يوم. جعلت من نفسها وسيطة بين الناتو وروسيا، ومنطقة جذب ابتكارية وإيجابية بين مختلف التقاطعات والاتفاقات الإقليمية والدولية. أعطاها هذا زخماً ومكانة جديدة على المسرح العالمي. أصبحت حكَماً، وتحظى بمنزلة وثقة كبيرة لدى روسيا وأوروبا واتّحادها. أجبرت أميركا على تبديل أسلوبها مع شريكتها الاستراتيجية التي لا بديل عنها. شكّلت من خلال قيادتها الصلبة جبهة تصدٍّ لكلّ هذه الترّهات السياسية المشبوهة في سبيل الحفاظ على المؤسّسات السياسية والصيغة والطائف والنموذج الحقيقي للجمهورية اللبنانية.

بدأت أميركا تدفع الثمن في الشرق الأوسط، والأمر نفسه بالنسبة إلى فرنسا في لبنان. اصطدمت فرنسا في لبنان بالجسم العربي الصلب والصلابة السعودية الدبلوماسية والاعتراض الأميركي على سلوكها، على الرغم من الاعتراف بأنّها هي اللاعب الأبرز على ساحته المحلّية. يحاول المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان تقويم التراكمات وإصلاح الأخطاء الأخيرة، من خلال ما يتمتّع به من خبرات سياسية ودبلوماسية وباع كبير في فهم الملفّ اللبناني، مع ما يتمتّع به من علاقات طيّبة مع العالم العربي. يحاول من خلال مسعاه الجديد الخروج من السياسة الماكرونية الأخيرة في الملفّ اللبناني برويّة ومن دون تصادم مع الموقفين الأميركي والعربي، عن طريق الحفاظ على التوازنات الواقعية السياسية والإجماع الدولي الخماسي الموحّد على طريقة حلّ الأزمة الرئاسية اللبنانية.

تحاول فرنسا التعويض عن انحسار نفوذها في المنطقة الإفريقية من خلال توسيعه في الشرق الأوسط ابتداء من بوّابته اللبنانية، مع تنامي قوى دولية مختلفة تملأ الفراغ. لكن لا تستطيع فرنسا تقليد سياسة أميركا الشرق أوسطية في لبنان. إذ تعتبر أميركا أنّ لبنان ملفّ ثانوي، فيما تعتبره فرنسا أولويّة وبوّابة لها في الشرق الأوسط. تفضّل الإدارة الأميركية الحالية الاتفاق مع إيران ومتابعة انتهاج سياسة حلف الأقلّيات. وحتى لو أدارت ظهرها للعرب بحجّة أنّ القرار الإيراني موحّد، فيما القرار العربي متنوّع ومتعدّد، فما يهمّها هو الأمن الإسرائيلي والطاقوي. في حين لن تستطيع فرنسا نسج علاقات استقراريّة مع أصحاب نظرية الحلف الأقلّوي في لبنان لأنّها حريصة على لبنان الصيغة المؤسّسة، فيما الآخرون يسعون إلى فرض أمر جديد غير مرغوب أبداً.

إقرأ أيضاً: تواصل قطر مع إيران: التجارب مخيِّبة

يتحيّن لبنان شهر أيلول وورقه الأصفر الخريفي. يأمل اللبنانيون تحوُّل اصفرار أوراق الاستحقاقات السياسية والدستورية إلى اخضرار ربيعي منتج رئاسياً، وأن تكون بداية الخريف تبدُّلاً جديداً في مراحل الأزمة، وتحوُّلاً نحو الخواتيم الإيجابية. يستبشرون بـ”أيلول مبلولٍ” بأمطار تسويةٍ تنهي سريعاً السكون في القصر الجمهوري، بعد أشهر من قيظ الصيف الجافّ والقاحل. هو موعد القدوم المرتقب الثالث للمبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان. يخيِّر شهر أيلول البلد وجهابذته السياسيين بين احتمالين متناقضين: الحلّ أو الويل. والخيار بيدهم وحدهم. فهل تكون الثالثة ثابتة رئاسياً؟ أم تكون عاجزة كما هي عادة المبادرات الفرنسية في لبنان؟

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…