ليس سهلاً على هاكان فيدان وزير الخارجية الجديد و”العقل الاستراتيجي” لتركيا السير وسط حقل الألغام المحيط بالجغرافيا التركية من كلّ صوب. لكنّه ليس وحيداً على الجبهات وفي خطوط المواجهة. فمعالم السياسة الخارجية التركيّة ترسمها وتحدّدها “ترويكا”، أو ثلاثية تعمل في تناغم وتواصل بغضّ النظر عن الأسماء والأشخاص. والرؤية الجديدة أُقرّت قبل عامين بدوافع سياسية واقتصادية وأمنية عديدة من قبل فريق عمل يضمّ خبراء من الخارجية والاستخبارات المدنية والعسكرية وجيشاً من المستشارين في الرئاسة التركية.
لم يكن تبادل الكراسي بين هاكان فيدان وإبراهيم كالين، الرئيس الحالي لجهاز الاستخبارات، على حساب لجان الخبراء والأكاديميين المحيطين بالرئيس رجب طيّب إردوغان والذين يتحرّكون على مدار الساعة في الرصد والمتابعة. فمن يقود ويوجّه في نهاية الأمر هو الرئيس رجب طيب إردوغان في ظلّ النظام الرئاسي الجديد المعتمد منذ 5 سنوات.
تعرّضت الثوابت في سياسات تركيا الخارجية لاختبارات صعبة ولاستهداف مباشر منذ عقود. حاولت أنقرة الدفاع عن مصالحها وما تقوله وتريده في مواجهة الكثير من الهجمات والأزمات. لكنّها تحمّلت أيضاً ثمناً باهظاً نتيجة الأخطاء التي ارتكبها البعض في التقدير والتخطيط وطرح التصوّرات البعيدة المدى، وخصوصاً في علاقات تركيا مع العديد من الدول العربية.
ليس سهلاً على هاكان فيدان وزير الخارجية الجديد و”العقل الاستراتيجي” لتركيا السير وسط حقل الألغام المحيط بالجغرافيا التركية من كلّ صوب
العلاقة مع الغرب
وضعت تركيا موضوع علاقاتها مع الغرب الأميركي والأوروبي ومسألة مجاورتها لروسيا السوفيتية حتى مطلع التسعينيات في صلب أسس ومعالم سياستها الخارجية. موقعها الجغرافي وعلاقاتها مع دول الجوار في الشرق والجنوب كانت تحت تأثير هذه المعادلة التي بنتها منذ قرن تقريباً. كانت التحوّلات في مواقفها وخياراتها حيال دول المنطقة واقترابها أو ابتعادها عنها تسير دائماً وسط مطبّات المتغيّرات والتوازنات الدولية، قبل أن تكون مرتبطةً بمصالحها المباشرة مع الدول المجاورة.
تريد أنقرة من الاتحاد الأوروبي أن يستفيد من دروس الحرب الأوكرانية وإصرار اليونان على توريط أوروبا في أزمات بحر إيجه وشرق المتوسط دفاعاً عن أثينا، خصوصاً أنّ أميركا تحاول لعب هذه الأوراق في علاقتها مع الجميع هناك لحماية مصالحها ونفوذها. يصرّ الجانب التركي على أنّه لن يحدث تقارب تركي أوروبي حقيقي من دون تحوُّل في مواقف المجموعة الأوروبية. وقد لا تنتظر أنقرة طويلاً بعد الآن وتشرع في البحث عن خيارات وبدائل استراتيجية جديدة. إذ بدأت قيادات تركية كثيرة تتحدّث عن “العمى الاستراتيجي” الذي تعاني منه بعض العواصم والتكتّلات في علاقتها مع تركيا. وهذه الرسالة موجهة إلى الاتحاد الأوروبي الذي تتطلّع أنقرة إلى أن تكون عضواً فيه منذ 6 عقود.
ستتمسّك أنقرة بعلاقاتها الاستراتيجية مع الغرب خلال رسم معالم سياستها الخارجية الجديدة، ولن تفرّط بموقعها ودورها في حلف شمال الأطلسي، لكنّ ذلك لن يعني تخلّيها عن التقدّم والتحوّل الحاصل في علاقاتها مع روسيا في أكثر من ساحة تلتقي فيها الحسابات والمصالح مثل سوريا والقوقاز والبلقان والبحر الأسود. يُقلق الغربَ نجاحُ أنقرة وموسكو في تجاوز الامتحان الصعب في أكثر من ملفّ ثنائي وإقليمي، لكنّه لا يدفع قياداته إلى الأخذ بما تقوله وتريده تركيا حتى الآن، وهو صلب نقاشات السياسة الخارجية التركية عند طرح البدائل والخيارات اليوم.
الربيع العربي… و”حزام الأمن والسلام”
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العقد الأوّل من الألفية الثانية تبنّت تركيا سياسة جديدة كان فيها الكثير من الانفتاح والتواصل الثنائي والمتعدّد الأطراف مع الدوائر الجغرافيّة الأولى والثانية المحيطة بها في الإقليم. في عام 2010 حاولت تركيا أن تستفيد من أجواء “الربيع العربي” والمشهد الإقليمي المتحرّك باتّجاه بناء حزام جديد تكون بين أبرز اللاعبين المؤثّرين فيه.
أخذت تركيا ما تريد في السنوات الأولى، لكنّها بدأت تعاني من الانسداد والانغلاق كلّما طالت الأزمات وتشعّبت وتعقّدت، وأصبحت تواجه مواقف صعبة في علاقاتها مع العديد من العواصم العربية والغربية. لم يعمّر توصيف “العزلة الثمينة” كثيراً. وكانت للتحوّلات الدستورية في تركيا بعد عام 2017 وتغيير شكل النظام ارتداداتها أيضاً على الكثير من العوامل التي رسمت المعالم الجديدة للسياسة الخارجية.
فقد بدأت تركيا بعد عام 2020 تراجع مواقفها وخياراتها المعتمدة وتبحث عن فرص استراتيجية إقليمية أخرى. نجحت في تحسين وتطبيع علاقاتها بالكثيرين وحصدت ثمار هذا التحوُّل في العامين الأخيرين، خصوصاً في العلاقة مع العواصم الخليجية.
أوصلت مراجعة السياسات والمواقف أنقرة إلى قناعة ذات طابع استراتيجي إقليمي مختلف، مفادها: “سنكون أقوى ممّا نحن فيه من خلال التنسيق مع بقية اللاعبين في المنطقة، بدلاً من الدخول في مواجهات واصطفافات لا معنى ولا قيمة لها”. هذا الشعار الذي رفعه إردوغان يعكس مدى التحوّل في أولويات سياسة تركيا الخارجية، وفي هذا المسار الجديد “هدف أنقرة في المرحلة المقبلة هو إنشاء حزام من الأمن والسلام في الإقليم”.
تركيا خزّان الطاقة الإقليمي، ومركز مهمّ في تصنيع وبيع الأسلحة الحديثة، وصلة وصل ومركز تقاطع المصالح التجارية والأمنيّة للعديد من الدول والبقع الجغرافية. هذه كلّها بين العوامل التي تساهم في بناء السياسة الخارجية التركية
في المحصّلة القناعة التركية اليوم هي أنّ الأزمات الدولية المتزايدة في السنوات الأخيرة وارتداداتها على المنطقة منحت الدول الفاعلة والمؤثّرة في الإقليم فرصة لا تعوّض باتجاه تقديم لغة التواصل والحوار وإزاحة الكثير من خلافاتها، بحثاً عن بدائل جديدة تحمي مصالحها وتجنِّب المنطقة المزيد من الشرذمات والاصطفافات التي هي بغنى عنها.
فيدان والأولويات الجديدة
حدّد فيدان أولويات وزارة الخارجية التركية، التي تسلّم مهامّها قبل شهرين، خلال كلمته أمام الاجتماع التقليدي السنوي لكبار الدبلوماسيين الأتراك العاملين داخل البلاد وخارجها.
بين الأسس التي سيتمّ تفعيلها في سياسة تركيا الخارجية:
– الأمن والسلام في الداخل والخارج.
– مراجعة العلاقات بحسب ترتيب الدوائر الجيوسياسية والجيوستراتيجية التي تعني أنقرة.
– دعم بناء وتفعيل السياسات التي تؤسّس لعلاقات جديدة.
- ومواجهة الاصطفافات التي تستهدف مصالح تركيا الإقليمية والدولية.
تركيا خزّان الطاقة الإقليمي، ومركز مهمّ في تصنيع وبيع الأسلحة الحديثة، وصلة وصل ومركز تقاطع المصالح التجارية والأمنيّة للعديد من الدول والبقع الجغرافية. هذه كلّها بين العوامل التي تساهم في بناء السياسة الخارجية التركية. وفيدان الذي يقول إنّ بلاده تتطلّع اليوم إلى أن تكون “أحد مؤسّسي النظام العالمي الجديد انطلاقاً من أنّها قوّة إقليمية فاعلة”، سيكون بين اللاعبين والمحرّكين الأبرز هناك. ستكون الأنظار مشدودة نحو سياسة تركيا السورية وعلاقتها مع الجار العراقي وتعاملها مع ملفّ الأزمة القبرصية وإنهاء الصراع في القوقاز والقرم وتوتّر البحر الأسود. هذه كلّها أوراق قوّة تملكها، لكنّها تلعب ضدّها كأوراق ضعف.
فما الذي سيدوّنه هاكان فيدان مثلاً عندما يذهب إلى التقاعد ويقرّر كتابة مذكّراته؟
هناك الكثير من الملفّات والقضايا التي عايشها وهو يقود جهاز الاستخبارات لسنوات طويلة، واليوم على رأس الدبلوماسية التركية خلفاً لمولود جاويش أوغلو. لكنّ الأهمّ في أسراره سيكون حتماً ما يعرفه من خلال وجوده حول طاولة القرار المصغّرة التي اختار إردوغان أن تكون بجانبه عند بحث الملفّات المصيرية الداخلية والخارجية. حتماً ستكون لاستراتيجيات الطاقة والسلاح والأمن والتجارة الأولوية، مع بداية المئوية الثانية في عمر الجمهورية التركية التي حالفه الحظ أن يكون في موقع القيادة فيها خلال هذه المرحلة الانتقالية.
إقرأ أيضاً: رسائل قمّة جدّة.. أبعد من حجم المشاركين..
تعرف تركيا أنّها مستهدفة بسبب صعودها السياسي والاستراتيجي وتطوير تكنولوجيّتها العسكرية واستقلاليّتها في تحديد مواقفها واتخاذ القرارات. لكنّها تدرك أيضاً أهمّية مراجعة الكثير من مواقفها وسياساتها الإقليمية حيال العديد من العواصم والملفّات السياسية والأمنيّة التي تسبّبت بالكثير من الأزمات والخضّات مع الخصوم والحلفاء على السواء في السنوات الأخيرة، وهذا ما فعلته.
حاول فيدان أن يدخل المعترك السياسي قبل عقد تقريباً عندما قرّر الاستقالة من منصبه على رأس جهاز الاستخبارات والترشّح للانتخابات البرلمانية. قاطعه إردوغان وخيّب آماله وطلب إليه البقاء في مكانه. لكنّه حتماً ليس نادماً على ذلك.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@