الطريف أنّني لم أبدأ الاهتمام باحتمالات الاتفاق المؤقّت أو الجانبي بين الولايات المتحدة وإيران إلّا قبل شهرين، مع أنّ كلّ الدلائل تشير إلى أنّ الفكرة بدأت لدى الطرفين في الشهر الثاني من العام الحالي. أثارت اهتمامي التنحية العنيفة لروبرت مالي عن الملفّ من جانب أنتوني بلينكن وزير الخارجية، وتحويله للتحقيق (!)، ثمّ قيام طهران قبل شهر باعتقال أميركي خامس من أصل إيراني كان موجوداً بطهران لزيارة عائلته.
طبعاً للوهلة الأولى يبدو أن لا علاقة بين الأمرين. أمّا اهتمامي بروبرت مالي فيعود إلى حوالي عشرين عاماً عندما كان يكتب مقالات مشتركة مع أحمد الخالدي في مجلّة “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، التي تهتمّ بالسياسات الأميركية في الشرق الأوسط والعلاقات المتشابكة والمشتبكة بين إيران والولايات المتحدة، والتفكير النقدي في القضية الفلسطينية. وقد بدا فيها ليبرالياً أدنى إلى اليسار، وهو اقترب وابتعد من إدارات أميركية، وبخاصةٍ الديمقراطية، وكان دائماً في الفريق المختصّ بالقضية الفلسطينية أو العلاقات الأميركية – الإيرانية. وهو من أنصار العلاقات الطبيعية بل الجيّدة مع إيران. ويرى أنّ الفشل منذ عام 1979 حتى عام 2015 في تصحيح تلك العلاقات يعود إلى أربعة أمور:
– خضوع الإدارات المختلفة للمزاج الداخلي في الحملات الانتخابية وليست لإيران أولوية فيه.
– المجاملة (الاستراتيجية) لإسرائيل.
– حيرة الرؤساء بين إيران والعرب وتركيا.
– والسبب الرابع هو عدم فهم النفسية الإيرانية والطموحات الإيرانية في الوقت نفسه.
يقول الأميركيون الآن إنّ هناك بنوداً سرّيةً وغير رسمية في الاتفاق، ومنها تخفيض التخصيب من 90 إلى 60، ومنها إيقاف الهجمات من ميليشيات إيران بسورية على قاعدة التنف الأميركية والقواعد الأخرى
لذلك كان العنوان المتهرّب للسياسات تجاه إيران: الاستيعاب (Containment)، وللاستيعاب جانبان:
– منع إيران من تحقيق أهدافها من جهة، على أن لا يصل ذلك إلى الحرب.
– وعدم قطع التفاوض معها مباشرةً أو بالواسطة.
فشل الاستيعاب، إذ حقّقت إيران بالهجوم الاستراتيجي المستمرّ كلّ أهدافها تقريباً، ثمّ حدث تحوّلٌ باتجاهها أيام الرئيس الأسبق باراك أوباما، لاستعادة العلاقات الطبيعية، ومن ضمن استراتيجية أوباما للتوجُّه شرقاً، وعدم الدخول في حروبٍ بالشرق الأوسط، مع قرفٍ من العرب ومن تركيا.. ومن إسرائيل.
روبرت مالي كان في قلب العملية بتفاصيلها التي قادت إلى الاتفاق مع إيران على ملفّها النووي عام 2015. وقد ابتعد أو أُبعد أيام الرئيس الاسباق دونالد ترامب، وعاد أيام الديمقراطيين مع إدارة جو بايدن. وقد أعلنت إدارة بايدن كما هو معروف أنّها تريد العودة إلى اتفاق عام 2015، ورحّب بذلك الأوروبيون في لجنة “5+1”.
بايدن أبرم اتفاقاً سريّاً مع إيران؟
بدأت إدارة بايدن المفاوضات غير المباشرة في جنيف وفيينا (وكالة الطاقة) بتكتيك العودة إلى اتفاق عام 2015 بحذافيره، وكانت إيران قد غادرته بمغادرة ترامب له، وراحت تُلاعبُ وكالة الطاقة وأوروبا على المخاوف من الصواريخ الباليستية، ودرجات التخصيب، والميزات الاقتصادية إذا رُفعت العقوبات، والإسهام في مكافحة الإرهاب، وأثمان الانصراف عن التحالف مع روسيا والصين. وبسبب الإصرار الأميركي على العودة الكلّية انقطعت المفاوضات ثمّ أُعيدت مراراً. وكانت المعلومات قليلة عن دور روبرت مالي، وقيل ثلاث مرّات على الأقلّ إنّ أجزاء كبيرةً من الاتفاق الجديد أُنجزت. والنقاط الخلافية القليلة الباقية لا تتعلّق ببنود الاتفاق الداخلية فقط، بل بمحيطه مثل الباليستي، ودور إيران في المنطقة، والخلاف على إيران في سورية، وأمن مضيق هرمز، وأخيراً دعم إيران لروسيا بالمسيّرات في الحرب على أوكرانيا.
في مطالع عام 2023 عادت المصالح الانتخابية للرؤساء الأميركيين إلى الظهور، وبدا لخبراء الانتخابات بالحزب الديمقراطي أن لا مصلحة شعبياً وسياسياً لأميركا في العودة إلى الاتفاق الأصلي قبل الانتخابات. لذلك ظهرت فكرة الاتفاق البديل أو المؤقّت أو الجانبي بما يفيد الطرفين:
– الأميركيون يطلقون سراح أسراهم في إيران وعددهم أربعة.
– وإيران تحصل على خمسةٍ ممّن اتّهمتهم الإدارات الأميركية بالعمل لإيران في الولايات المتحدة.
لذلك قامت إيران بخطف أو أسر واحد جديد ليصير التبادل خمسة بخمسة!
– والبند الثاني هو الإفراج لإيران عن فلوسها المحجوزة في كوريا الجنوبية بسبب العقوبات الأميركية وقيمتها ستّة مليارات دولار عبر قطر، لكي يمكنها إنفاقها على الغذاء والدواء والسِلَع التي لا تشملها العقوبات الأميركية، وهناك أرصدة مالية أخرى لم يعلن عنها بعد.
في الشهور الأخيرة بدت العلاقات شديدة التوتّر بين الولايات المتحدة وإيران. فقد أرسلت الولايات المتحدة ثلاثة آلاف جندي إلى المحيط الهندي والبحر العربي ومضيق هرمز لحماية السفن التجارية من الخطف والاحتجاز الإيرانيَّين لها
البنود السريّة في الاتفاق الجانبي
يقول الأميركيون الآن إنّ هناك بنوداً سرّيةً وغير رسمية في الاتفاق، ومنها تخفيض التخصيب من 90 إلى 60، ومنها إيقاف الهجمات من ميليشيات إيران بسورية على قاعدة التنف الأميركية والقواعد الأخرى. والنواب الإيرانيون الذين من المفروض أن تكون لجنتهم للأمن قد ناقشت الاتفاق في جلساتٍ سرّية، ينفون حصول أيّ تنازل حتى في مسألة استعمال الأموال الكوريّة. الجمهوريون الأميركيون يعتبرون الاتفاق فشلاً وخسارة، فقد استطاع الرئيس ترامب إطلاق سراح أميركيين من طهران من دون أيّ مقابلٍ مادّي، على الرغم من توتّر العلاقات معها آنذاك. ويردّ الديمقراطيون بأنّ الجمهوريين لا يهتمّون لحرّيات الأميركيين!
أمّا الإسرائيليون فقد كانوا معتدلين في إظهار خيبتهم، إذ قال نتانياهو إنّ كلّ اتفاقٍ لا يحول دون إنتاج إيران للسلاح النووي هو اتفاقٌ ناقص. بينما مضى مسؤولون أوروبيون وكُتّاب افتتاحيّات بعيداً في إظهار خيبتهم وهم متأكّدون أنّ إيران ستستخدم الأموال المستردّة للإنفاق على الإرهاب في سورية ولبنان واليمن!
فما معنى الاتفاق وما دلالاته؟
في الشهور الأخيرة بدت العلاقات شديدة التوتّر بين الولايات المتحدة وإيران. فقد أرسلت الولايات المتحدة ثلاثة آلاف جندي إلى المحيط الهندي والبحر العربي ومضيق هرمز لحماية السفن التجارية من الخطف والاحتجاز الإيرانيَّين لها. ومنذ مطلع العام تكاثرت الصدامات بين القوات الأميركية في قاعدة التنف والقواعد الأخرى مع الميليشيات الإيرانية في البوكمال والميادين. وبلغ من انزعاج الأميركيين أن أقفلوا الطريق عند البوكمال للرحلات الإيرانية عبر العراق وسورية وإلى لبنان. وشاع أنّ الأميركيين يريدون احتلال مدينة البوكمال على الحدود العراقية – السورية!
في 12/8/2023 (أي قبل ساعات من كتابة هذا المقال ونشره) أصدر الأميركيون تحذيراً إلى السفن التجارية وناقلات النفط يدعوها إلى أن تتجنّب المرور في المياه الإقليمية الإيرانية بمضيق هرمز حتى لا تتعرّض للاحتجاز. والمعروف أنّ 20% من كميات النفط المصدَّر إلى العالم تمرّ بالمضيق.
الدلالة الأولى للاتفاق أنّه انتصارٌ لإيران في مقابل لا شيء. فالأميركيون المحتجزون بطهران هم من أصول إيرانية، وليسوا مذنبين أو جواسيس، بل هم كالعادة عند إيران سِلَع للتبادل. ثمّ هي حصلت على مبلغ ماليّ محترم، هي في أشدّ الحاجة إليه. صحيح أنّها أموال إيرانية في الأصل، لكن كان يتعذّر عليها استعمالها بسبب الاحتجاز الأميركي لها. فهو إنجازٌ ذو دلالة من ضمن سياسة الصبر الاستراتيجي التي تنتهجها إيران من عدّة عقودٍ مع الولايات المتحدة، وهي تثمر دائماً.
فلماذا أقدمت الولايات المتحدة على ذلك الآن بالذات مع بدء الرئيس بايدن لحملته الانتخابية؟ وهل يكفي “تحرير” الأميركيين حجّةً لذلك؟
يبدو أنّ ذلك يعني شيئاً للشعب الأميركي، حيث تحرص الدولة الإمبراطورية على حماية مواطنيها في العالم ولو كان الثمن باهظاً.
المنطقة مقبلة على هدوء؟
هل تهدأ الأوضاع العسكرية والأمنية بين إيران والولايات المتحدة بالمنطقة؟
تحتاج الصفقة للإنجاز إلى عدّة أسابيع، وخلال الأسابيع القليلة المقبلة قد يسود الهدوء، لكنّ أحداً لا يضمن شيئاً بعدها. صديق ألمانيّ، وهو خبير استراتيجي، نبّهني ضاحكاً إلى أنّ الرئيس بشار الأسد كان عنيفاً في مقابلته مع فضائية “سكاي نيوز”، حيث هاجم الجميع وبخاصّةٍ الولايات المتحدة… والعرب والرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحركة “حماس”، واعتبر الجميع إرهابيين. وهو أراد القول إنّ الاتفاق المؤقّت أو المحدود لا يشمل الأسد، وهو حليف إيران. ولا أرى لذلك صِلةً بالاتفاق المذكور، وإنّما الأمر كما قال جرير في هجاء الفرزدق:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشِرْ بطول سلامةٍ يا مربعُ
إقرأ أيضاً: هل تحيي المفاوضات السعوديّة الأميركية حلّ الدولتين؟
بل إنّه قد يكون ذلك مطلوباً منه، شأن ما يفعله مسؤولو الحزب في لبنان في المناسبات. لقد كان الجنرال قاآني قائد الحرس الثوري قبل أيامٍ ببيروت، وهو ما جاء طبعاً لمقابلة مسؤولي دولتنا بل زعيم الدولة الأخرى، فهل جاء ليطلعه على الاتفاق ومقتضياته؟
وأخيراً: ماذا حصل لروبرت مالي؟ هل يتعلّق عزله من الملفّ بأنّه كان ضدّ الاتفاق أم بأنه سرّب وثائق اعتبرها الأمنيون الأميركيون مخلّةً بالأمن القومي؟
قال لي الصديق الألماني عندما رآني غير مهتمّ بكلام الرئيس الأسد: “لا تعظّموا من شأن ما حصل ودلالاته. الأميركيون حصلوا على حرّية مواطنيهم والإيرانيون حصلوا على بعض أموالهم، ويا دار ما دخلك شرّ”.