جاء الفرنسي لودريان إلى لبنان في المرّة الأخيرة، ليس باعتباره ممثّلاً للسياسة الفرنسية ومسارها المعروف تجاه لبنان، بل باعتباره ممثّلاً للجنة الدول الخمس التي اجتمعت بالدوحة عاصمة دولة قطر، وأصرّت في بيانها المشهور على المسار الدستوري لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. لقد اعتبرت القوى السيادية المعارضة للثنائي الشيعي ومرشّحه أنّ البيان يمثّل وجهة نظرها. لكنّها لم تفعل شيئاً للإجابة على بيان الدوحة بالإيجاب وبتصوّر معيّن، بل انتظرت لودريان مثل الأطراف الأُخرى. ولا ندري ماذا قال لودريان لمن اجتمع بهم باعتباره ممثّلاً للخُماسيّة. بل وحده الرئيس نبيه برّي اعتبر في الكلام الذي أنبأه به لودريان فتحاً لكوّةٍ في جدار الأزمة، وصرّح أخيراً أنّ لودريان عائد في أيلول (17 أيلول) لتنظيم حوار وطنيّ. وهو الحوار الذي لا يستجيب لبيان الخماسيّة بشأن المسار الدستوري الذي يعني اجتماع مجلس النواب من جديد لانتخاب الرئيس!
ما بعد مغادرة لودريان
غادر لودريان وتوالت الأحداث:
– انتهت ولاية حاكم المصرف المركزي وحلَّ محلَّه نائبه الأوّل منصوري، الذي أعلن عن سياسةٍ جديدةٍ للمصرف تقتضي إيقاف “المنصّة” التي سبق للحاكم المنقضي الولاية أن أنشأها وسُرَّ بها الموظّفون بالدولة وفئات أُخرى، على الرغم من تهديدها للاحتياطي الإلزامي.
– نشبت الاضطرابات الدامية في مخيّم عين الحلوة.
– طالبت دول الخليج وعلى رأسها السعودية مواطنيها بمغادرة لبنان، وأخرى طلبت إليهم أخذ الحذر والحيطة. وتبعتها في ذلك دول أوروبية، وهو ما أثار مخاوف لدى المواطنين ولدى السيّاح. وما أفاد كثيراً تصريح رئيس حكومة تصريف الأعمال بأنّ الوضع الأمنيّ مستقرّ.
معظم التخمينات تقول إنّ باسيل يفاوض مع حليفه العريق بشأن أمرين: اللامركزية الإدارية التي يريدها باسيل موسَّعة بحيث تشمل الشأن الماليّ أيضاً، والمسألة الثانية المهمّة هي الصندوق لإدارة كل أصول الدولة المربحة
لا يعرف أحدٌ إن كانت البيانات الخليجية ذات طابع أمنيّ أو أمنيّ وسياسيّ. وتكاثرت التخمينات بشأنها. من المراقبين مَن قال إنّها تعني استعداداً لمعاقبة من يعطّلون انتخابات الرئيس، أو إنّها ناجمة عن اشتباكات المخيّم، أو إنّها تعبير عن القلق من تصاعد الاشتباكات في سورية بين الأميركيين والإيرانيين والأتراك. التخمينات لا تفيد ما دامت المعلومات غائبة. لكنّ الثابت أنّ الإيرانيين في حالة اندفاعٍ، وصراعهم مع الولايات المتحدة يتصاعد هذه الأيام بعد انخفاضٍ في الوتيرة عام 2023. إنّما لا أحد يتوقّع حرباً بالمنطقة يكون لبنان طرفاً فيها.
إنّ المخشيّ منه على لبنان هو توالي الانهيارات في المؤسّسات بحيث تكاد الدولة أن تنعدم، إن لم يجرِ البدء بإعادة تكوين السلطة قبل نهاية العام بدءاً بانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية.
ماذا يفعل جبران؟
ولو تأمّلنا التحرّكات الجارية فإنّها تكاد تكون خامدة، إلّا حركة جبران باسيل المستجدّة باتّجاه الحزب. ومع أنّ المعلومات عن هذه المفاوضات ضئيلة أيضاً، فإنّ معظم التخمينات تقول إنّ باسيل يفاوض مع حليفه العريق بشأن أمرين: اللامركزية الإدارية التي يريدها باسيل موسَّعة بحيث تشمل الشأن الماليّ أيضاً، والمسألة الثانية المهمّة هي الصندوق لإدارة كل أصول الدولة المربحة الذي أنهت لجنة المال مناقشته وحوّلته إلى الهيئة العامّة للمجلس.
ماذا يكسب باسيل من ذلك؟ إن تحقّق شيء من المطالب يستطيع أن يقول إنّه جلب للمسيحيين ما لم يكونوا يحلمون به، وهذا يعيد تأهيله للرئاسة ولو بعد ستّ سنوات. وإذا سئل: لماذا لم يستطِع عمّك تحقيق شيءٍ من ذلك؟ يستطيع القول إنّه كما تأهّل الجنرال عون للرئاسة عام 2006 في تحالف مار مخايل، فإنّ اتفاق الضاحية إنْ كان هو مؤهِّلٌ لا يقلُّ أهميّة. وإذا كانت أطراف مسيحية بارزة تدعو للفدرالية، فإنّ جبران باسيل يستطيع أن يقول إنّه حقّق أقصى الممكن الآن، وإذا سنحت فرصة بعد اللامركزية الموسَّعة فهو يستطيع أكثر من غيره السير باتّجاهها!
ولنذهب مرّةً ثانيةً باتّجاه العواجل: إذا انتهت “المنصّة” كما يقترح منصوري، فإنّ وزارة المالية في هذا الشهر أو الشهر التالي لن تستطيع دفع مرتّبات الموظّفين. وهو ينذر بانفجار إن لم يكن في هول انفجار المرفأ أو تفجيره، فليس أقلّ هولاً على الدولة والنظام وإدارتهما، لأنّه يهدّد بانهيار كلّ شيء ولا تعود هناك إمكانية لترميم العلاقة بين الدولة والمواطنين.
الرحمة على رياض سلامة
هل نترحّم على رياض سلامة لأنّ احتيالاته أبقت أمور المواطنين ولو في الرمق الأخير سنواتٍ أربعاً؟! لا أظنّ أنّ الترحّم على الرجل جائز، مهما تتطوّر إليه الأمور، لأنّ فساد الرجل فاعل أساسيّ في كلّ الانهيار الذي حصل. لقد تقطّعت أطرافنا الأربعة، واشتغل فينا الحاكم المعجزة أربع سنواتٍ لتركيب أطراف صناعية فلم ينجح في ذلك. أصدقاؤه كثر، لكنّ خصومه أكثر بكثير.
تعالوا ننظر إلى الأمر من ناحيةٍ أُخرى. هناك شبه اتفاقٍ على الخطوط العريضة للإصلاح مع صندوق النقد. والمؤسّسات الدولية تترجّانا من سنواتٍ أن ندخل في شيء من ذلك. فإذا دنت الأمور من الانفجار، أفلا يمكن بسبب الذعر من الانهيار الكامل أن تفكّر المنظومة في اللجوء إلى خطط صندوق النقد القاسية؟ لا يبدو ذلك ممكناً لأنّ المنظومة متبلّدة تماماً، ولأنّ الحزب لا يريد حلّاً غربيّاً، وما يزال ينصحنا بالاندفاع شرقاً.
إذا شئنا نموذجاً للتبلّد والحمق فلننظر في اقتراحات وزير الاقتصاد سلام الذي أراد من دولة الكويت أن تقوم بإلانفاق على إعادة بناء أهراءات الحبوب بالمرفأ كما فعلت في المرّة الأولى (1969) بشخطة قلم!
هكذا لا مساعدة من الغرب ولا من الشرق. ونحن متروكون لمصيرنا الذي سدّت علينا المنظومة والحزب آفاقه.
إقرأ أيضاً: معجزات الرئيس الجديد!
قطّةٌ على سطحٍ من الصفيح الساخن، مسرحية للكاتب الأميركي تنيسي ويليامز. ماذا يحصل للقطّة المقيّدة فلا تستطيع الهرب على صفيحٍ ملتهب؟ تحترق بالطبع. وهذا ما نحن فيه لا أقلّ ولا أكثر.
منّا من ينتظر لودريان.
ومنّا من ينتظر مفاوضات الحزب وباسيل.
ومنّا من شلّه الخوف ولم يعد ينتظر شيئاً.
نحن مثل قطّة ويليامز على سطح الصفيح الساخن، لا زيادة ولا نقصان!
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@