ليست صدقة عابرة بقدر ما يمكن القول أنها صدفة معبّرة تتمثل بإنعقاد الاجتماع الخماسي لمساعدة لبنان في الدوحة ليصدر بياناً ختامياً يعلن فيه التمسّك بالدستور واتفاق الطائف كبوابة للحلّ لكل الأزمات وإعادة تكوين السلطة.
بعدما كان اتفاق الدوحة في العام 2008، نافذة استعملها البعض لتقويض اتفاق الطائف جاء بيان الدوحة 2023 ليعيد مركزية الحل والبناء لدستور الطائف.
البيان الخماسي يحمي الشرعية
وضع بيان الدوحة حدوداً عريضة ومانعة حول كلّ ما يتمّ التفكير والحديث عنه حالياً من صيغ جديدة، ولم يسمح باحتمالية انعقاد المؤتمرات التأسيسية، فالصيغة اللبنانية باقية، إذ لا توجد جدوى من الحوار الشامل والكلاسيكي، وأسّس البيان لمحاولة إيجاد خرق جوهري إيجابي يساهم في إنهاء الشغور الرئاسي سريعاً، ودعم انتخاب رئيس يحافظ على وثيقة الوفاق الوطني ويكرّسها ويطبّقها.
تبنّى البيان الختامي الأخير للّقاء الخماسي، الذي ضمّ المجموعة الدولية المولجة مساعدة لبنان وانعقد في العاصمة القطرية الدوحة، السياسة الواقعية الصرفة. فقد نبذ بشدّة سياسة الأمر الواقع المختلفة تماماً. صحيح أنّه لم يصدر عن هذا اللقاء أيّ نتيجة جديدة ونهائية سريعة قد تكون مدخلاً حقيقياً إلى حلّ الأزمة الراهنة، لكنّه لم يسمح أيضاً في نفس الوقت بأيّ حلّ استقطابي واستقوائي يتجاوز الدستور.
وضع بيان الدوحة حدوداً عريضة ومانعة حول كلّ ما يتمّ التفكير والحديث عنه حالياً من صيغ جديدة، ولم يسمح باحتمالية انعقاد المؤتمرات التأسيسية، فالصيغة اللبنانية باقية
كان الاجتماع تنظيمياً مؤسِّساً أكثر منه إقرارياً منفّذاً، خصوصاً من ناحية الأدوار التنسيقية لكلّ الدول المشاركة. دعت كل الدول لبنان إلى الحلّ عبر تكريس مفهوم الدولة ونموذج العيش الواحد. وحفّزت على إنهاء الشغور السريع في مقام رئاسة الجمهورية من بوّابة احترام الدستور، وتطبيق وثيقة الوفاق الوطني “اتفاق الطائف”، المدخل الأساسي لأيّ حلّ، والمعبر الوحيد للحفاظ على منطق سيادة الدولة واستقلالها، وعلى تكريس نموذج الحوكمات المؤسّساتية والإدارية.
البيان الخماسيّ يؤكّد مرجعيّة الطائف
ثبّت اللقاء الخماسي وثيقة الطائف قاعدة دستورية وحيدة. وهي تستمدّ نهائيتها من أمرين اثنين:
-أوّلاً: وضعت حدّاً ونهايةً لنيران التقاتل والاحتراب اللبناني، ونقلت البلد إلى مرحلة السلم والأمن والبناء.
-ثانياً: لا يوجد بديل طبيعي عن هذا الدستور سوى الوهم والهموم، ولا يمكن الحديث عن أيّ صيغة جديدة قبل الشروع في تطبيقه.
دعم الطائف مع أولويّة حلّ الأزمة الرئاسيّة والاقتصاديّة
شدّد بيان خليّة الأزمة الموحّد، إضافة إلى البيانات الخاصّة بكلّ دولة، على ضرورة مساعدة لبنان في أزمته الرئاسية والاقتصادية. ودعم وثيقة الطائف الواقعية المجرّدة، التي أدخلت لبنان في مرحلة بناء الجمهورية المدنية، وتسعى إلى المحافظة على الصيغة المؤسّسة الموحّدة، من بوابة المناصفة التامّة والشراكة الشاملة وتفعيل عمل السلطات ورقابتها.
نبذ اللقاء “طائف” الأمر الواقع المشوَّه، الذي أخفقوا منذ البداية في تطبيقه، من خلال الممارسات اللادستورية اتفاقياً التي جعلت منه ضحيّة، وأبرزته وثيقةً للاستيلاء على الوطن، فيما هو عكس ذلك. لم تدعُ الدول الصديقة المجتمعة إلى تطبيق الطائف بطريقة سورية أو إيرانية. ولم تطلب تفسيره أميركياً أو حتى فرنسياً. لم يفرض العرب أن يكون سعودياً أو قطرياً. شدّدوا جميعاً على أنّ الطائف هو اتفاق لبناني موحّد، مع إلزامية تطبيقه فوراً.
إقرأ أيضاً: الحاكميّة تداهم لودريان والتوتّر الإقليميّ لا يُسعفه
يعتبر اللقاء أنّ العبث باتفاق الطائف ما هو إلّا مساس وغدر بالمكوّنات التي تحاول التخلّي عن طوائفها ومذهبيّاتها الدينية والإثنية لصالح مؤسّسة وجمهورية الطائف السياسية، ونموذج إداراته الوطنية والمدنية، فيما يحاولون إعادته إلى منطق الطائفية الضيّقة، وزواريب نفوذها الاحتكارية، ويسعون بجدّ إلى نخر وتفتيت وتهجير ما تيسّر لهم من هياكل الدولة ودوائرها وكوادرها.
لقد أظهرت مرحلة الطائف بوضوح عدم مشروعيّة النزاعات الدستورية نفسها. فقد مارست قوى الأمر الواقع الطرق الملتوية، فبدل أن تنصهر جميع المكوّنات في صلب ومزيج دولة الطائف، عزّزت هذه الكتل تغوُّلها السياسي داخل دوائر الدولة، وحوّلت الصراعات الدموية والهمجية السابقة إلى نزاعات داخل السلطة والوزارات والمديريات على الحصص والمحاصصات.
*غداً في الحلقة الثانية: أيّ طائف يريد الثنائيّ الشيعي؟