سجّل حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري نقاطاً إعلامية قويّة بانتهاجه سياسة جديدة في الإفصاح عن البيانات التي كان سلفه يخفيها، وباكورتها الكشف، بشيء من التفصيل، عن حسابات ما يسمّى “السيولة الخارجية” لدى مصرف لبنان، إلا أنّ الاختبار الأكبر في الشفافية لم يبدأ بعد.
في بيانه الصادر في 17 آب، فصّل مصرف لبنان للمرّة الأولى أرقام الموجودات الخارجية السائلة وما يقابلها من مطلوبات خارجية مماثلة، بحسب محاضر التسلّم والتسليم بين الحاكم السابق رياض سلامة ومنصوري. وقد كرّر ذكرها في جلسة اللجان النيابية يوم الإثنين، وأضاف إليها أرقاماً عن تكلفة الدعم، وهي أرقام تحتاج إلى نقاش وتدقيق في حقيقتها، بغضّ النظر عن النوايا الإصلاحية التي يُظهرها الحاكم الجديد.
سجّل منصوري نقاطاً إعلامية قويّة بانتهاجه سياسة جديدة في الإفصاح عن البيانات التي كان سلفه يخفيها، وباكورتها الكشف، بشيء من التفصيل، عن حسابات ما يسمّى “السيولة الخارجية” لدى مصرف لبنان
أظهرت الأرقام التي نشرها منصوري أنّ الموجودات الخارجية السائلة لدى مصرف لبنان لم تتجاوز 8.6 مليارات دولار بتاريخ 31 تموز، من ضمنها 1.53 مليار دولار نقداً في الصندوق، و3.1 مليارات دولار حسابات جارية، و3.7 مليارات دولار ودائع آجلة، و218 مليون دولار أوراقاً ماليّة دولية. وتضاف إلى هذا الرقم محفظة سندات الحكومة اللبنانية المتعثّرة (اليوروبوندز) التي لا تتجاوز قيمتها السوقية 387 مليون دولار، بينما كان سلامة يثبتها بالقيمة الاسمية البالغة 4.2 مليارات دولار.
تقابل هذه الموجودات مطلوبات سائلة بـ1.27 مليار دولار، وهو ما يعني أنّ صافي الموجودات الخارجية السائلة بعد حسم المطلوبات ومحفظة اليوروبوندز، لا يتجاوز 7.3 مليارات دولار.
أرقام سلامة المضلّلة: حسابات المصارف الجارية
تستند هذه الأرقام إلى الممارسات المحاسبية التي أرساها رياض سلامة، وهي ممارسات لا شكّ أنّها مضلّلة ولا مثيل لها في أيّ بنك مركزي على هذا الكوكب، وسيكون الاستحقاق الأخطر أمام منصوري كشف الأرقام الحقيقية وفق الأصول المتعارَف عليها دولياً، لا سيّما معايير المحاسبة الدولية IFRS، ومعيار صندوق النقد الدولي الخاصّ بنشر البيانات SDDS.
أكبر الثغرات في البيانات المنشورة هو خلوّ المطلوبات الخارجية السائلة من العبوة الناسفة المتمثّلة بالحسابات الجارية للمصارف وحساباتها الجارية لدى مصرف لبنان، التي تعمّد سلامة إخفاء حجمها في السنوات الماضية، وهي مقدّرة بعشرات مليارات الدولارات.
بالإمكان العودة إلى تقرير “ألفاريز إند مارسال”، الذي كشف أنّ حجم ودائع البنوك والمؤسّسات المالية لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بلغ نحو 75 مليار دولار في نهاية 2020، تضاف إليها شهادات إيداع بالعملة الأجنبية (CDs) بنحو 13.1 مليار دولار (مقوّمة بنحو 19.7 تريليون ليرة وفق سعر الصرف الرسمي السابق)، وأكثر من مليار دولار من الفوائد المستحقّة. وبذلك وصل إجمالي رصيد البنوك لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية إلى نحو 90 مليار دولار في نهاية 2020. لا يُعرف حجم الشقّ السائل من هذا الرصيد، أي الشقّ الذي هو تحت الطلب أو يستحقّ سداده خلال أقلّ من سنة، لكن يُعتقد أنّ الجزء الأكبر منه كذلك.
وتنكشف الفضيحة المحاسبية في التناقض بين بيانات مصرف لبنان من جهة وبيانات المصارف من جهة أخرى. فبيانات البنوك تورد أرقاماً فلكية لحجم أرصدتها السائلة لدى مصرف لبنان. على سبيل المثال، في بيانات بنك “بلوم” للربع الأوّل من العام الحالي، يصل رصيد “النقد والحسابات لدى المصارف المركزية” إلى 14 مليار دولار. ومن الواضح أنّ الجزء الأكبر من هذا الرقم عبارة عن حسابات جارية لدى مصرف لبنان. والبند نفسه لدى بنك عودة يصل إلى 10.5 مليارات دولار.
هناك تكمن أهميّة إجراء التدقيق الذي طلبه صندوق النقد الدولي في حسابات أكبر 14 بنكاً، ومقابلتها مع حسابات مصرف لبنان، لأنّ عشرات المليارات ضائعة بين ما هو مثبت هنا ومخفيّ هناك. وقد تبيّن من نقاشات لجنة المال والموازنة النيابية الإثنين أنّ هذا التدقيق معطّل بحجّة التكلفة، التي لا تزيد على ستّة ملايين دولار. وتلك حجّة واهية، لأنّ من البديهي أن تكون التكلفة على عاتق البنوك نفسها.
المهمّ في المسألة أنّ إيداعات البنوك لدى مصرف لبنان هي لبّ الأزمة المصرفية والنقدية التي انفجرت في 2019. فتلك هي أموال المودعين التي استحوذ عليها رياض سلامة عبر الهندسات المالية، التي تقدّر تكلفتها بحسب “ألفاريز إند مارسال” بنحو 76 مليار دولار. والحقيقة التي حاول سلامة إنكارها أنّ مصرف لبنان أكبر المتعثّرين في هذه الأزمة. فتوقّفه عن السداد للبنوك كان العامل الأساسي في توقّف البنوك عن السداد للمودعين.
إقرأ أيضاً: منصوري الـ”Telegenic” يعود إلى السوق و”صيرفة”.. بهدوء!
يقول منصوري إنّ لجنة داخلية تعمل على تصويب الممارسات المحاسبية، وإنّه يستمرّ بنشر البيانات وفق المعايير المعتمدة سابقاً إلى حين اكتمال المراجعة، مع نشر توضيحات في بيانات الميزانية لِما يعنيه كلّ بند.
تلك خطوة متقدّمة، لكنّ الخطوة التالية لن تكون بالسهولة نفسها، لأنّها ليست أقلّ من فتح الصندوق الأسود للنظام المالي. يستطيع منصوري فعل ذلك لأنّه آتٍ من خارج الطاقم المسؤول عن المرحلة المظلمة، لكنّ لإغضاب منظومة الحكم ثمناً لا يسهل دفعه.
لمتابعة الكاتب على توتر: OAlladan@