يبدو أنّ العالم على أعتاب “قرن الجنوب” أو بزوغ عصر “الجنوب العالمي”، حيث “التوازن الماليّ” والسياسي الذي يحلم به كثيرٌ من قادة الدول المتخاصمة مع أميركا، بات قاب قوسين أو أدنى، وكأنّ “حتمية التاريخ” تميل إلى جهة لم تكن محسوبة، خصوصاً بعد “الحرب العالمية” التي نشبت بين روسيا من جهة، و”الغرب” الذي يضمّ أوروبا وأميركا وحلفاءهما من جهة أخرى.
في البداية، فإنّ “بريكس BRICS” هو اختصار لأسماء الدول الخمس التي شكّلت حلفاً اقتصادياً وماليّاً، بعدما كانت عقدت اجتماعات تمهيدية متواصلة منذ 2006، وباتت “بريك” في 2009 قبل أن تنضمّ جنوب إفريقيا وتصير “بريكس” في 2011، إلى جانب روسيا والصين والهند والبرازيل. وها هي اليوم تضيف إليها السعودية والإمارات ومصر وإيران والأرجنتين وإثيوبيا، ورفضت انضمام دول أخرى أبرزها الجزائر.
يبدو أنّ العالم على أعتاب “قرن الجنوب” أو بزوغ عصر “الجنوب العالمي”، حيث “التوازن الماليّ” والسياسي الذي يحلم به كثيرٌ من قادة الدول المتخاصمة مع أميركا، بات قاب قوسين أو أدنى
بريكس +” المكوّنة من 11 دولة سوف تضع G7 في الظلّ (التي تضمّ كلّاً من الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، اليابان، وكندا). هذا ما قالته صحيفة “فايننشال تايمز” الأميركية، لأنّ المجموعة بحلّتها الجديدة باتت تُشكّل 47% من سكّان العالم، و37% من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، وحصّتها من الصادرات السلعيّة العالمية هي 20%، بينما وارداتها هي 16%، وترجّح أغلب مراكز الأبحاث أن تتفوّق “بريكس +” على الغرب في غضون عقدين تقريباً.
تمتلك هذه المجموعة اليوم أيضاً “حصّة الأسد” من احتياطيات النفط والغاز في العالم، فضلاً عن حجم مرعب من الموارد الطبيعية الأخرى. قبل قمّة جنوب إفريقيا، كانت “بريكس” تضمّ دولة نفطية واحدة هي روسيا، التي أغرقتها الدول الغربية بالعقوبات، وأقصتها من السوق الغربي بعدما فرضت عليها بيع نفطها وغازها بأسعار محدّدة. لكن بعد الضمّ، بات لدى “بريكس +” أكبر دول نفطية في العالم، مثل السعودية والإمارات وإيران التي تمتلك مجتمعة قدرات إنتاجية نفطية تقارب 16 مليون برميل يوميّاً.
وإذا ما أُضيفت إليها حصّة روسيا المقدّرة بنحو 10 ملايين برميل يومياً، فستكون حصّة “بريكس +” اليومية قرابة 26 مليون برميل، أي بزيادة 150% وأقرب إلى حصّة “أوبك” اليومية (34 مليون برميل). وهذا ما قد يمكّن المجموعة مستقبلاً من استخدام تلك النقطة من أجل المضيّ في تسعير أو تقويم النفط بعملة غير الدولار، وأقلّه القدرة على التهديد بهذا الإجراء.
قمّة جنوب إفريقيا
لم تكن قمّة مجموعة “بريكس” الـ15 التي عُقدت الأسبوع الفائت في جنوب إفريقيا، قمّة عاديّة، بعدما أطلقت العنان لـ”مواجهة اقتصادية” شرسة بين دول الشمال ودول الجنوب، إذ باتت التكتّل الأكثر نفوذاً لدول العالم النامي على الإطلاق.
على مدى السنوات الفائتة كان تقدّمها منطقياً، لكنّ عاملين رئيسيَّين استجدّا، سرّعا ودفعا صوب تلك التوسعة السريعة لأعضاء المجموعة، وهما:
1- الحرب الروسية – الأوكرانية، التي أظهرت الخلل في النظام الماليّ العالمي، ووضعت الولايات المتحدة “تحت الضوء” من خلال سلاحين كانت تستخدمهما ساعة تشاء، لكنّها هذه المرّة أمعنت في استخدامهما، وهما: “العقوبات والدولار”. بعد الحرب الأوكرانية شعرت كلّ الدول أنّ واشنطن قادرة على معاقبة أيّ دولة في العالم ترفض إملاءاتها، وتستطيع أن تحتجز ما لديها من أصول في المصارف المركزية، وأن “تطفّش” الاستثمارات الأجنبية والشركات من أسواقها.
2- المنافسة الشديدة بين الولايات المتحدة وبين الصين ومن خلفها روسيا، ولذا تريد هاتان الأخيرتان خلق تجمّع عالمي جديد ينافس مجموعة السبع G7 التي تفرض آراءها السياسية والاقتصادية على العالم برمّته ضمن اجتماعات دورية مقفلة، مكوّنةً بذلك ما يشبه “حكومة ظلّ” عالمية غير معلنة تتبع لـ”الحاكم الماليّ الأعلى”، الولايات المتحدة الأميركية.
بريكس +” المكوّنة من 11 دولة سوف تضع G7 في الظلّ (التي تضمّ كلّاً من الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، اليابان، وكندا). هذا ما قالته صحيفة “فايننشال تايمز” الأميركية
الابتعاد عن “الأحاديّة”
تساهم هذه التحوّلات اليوم في “تسريع” الابتعاد عن النظام العالمي “الأحاديّ” الذي تقوده الولايات المتحدة والتوجّه نحو عالم جديد “متعدّد الأقطاب”، لكن لا بدّ من الاعتراف بأنّ ذاك “النظام الجديد” بحاجة إلى مزيد من الوقت من أجل الظهور، بل بحاجة إلى صياغة مضامينه بشكل أكثر تماسكاً.
تجتمع مجموعة “بريكس +”، حتى اللحظة، على “الأسباب” أو “العقبات”. ولديها الكثير من العمل من أجل بلوغ مرحلة المنافسة الفعليّة، ومن بين تلك الأسباب التي جمعتها مع بعضها:
– الاستياء المفرط من الغرب، ومن آثار الاستعمار الباقية (خصوصاً في إفريقيا).
– رفض هيمنة الدولار الأميركي على التعاملات الخارجية.
– ضيق الصدر من سلاح العقوبات الأميركية القاسي.
– الافتقار إلى آليّة إصلاح للنظام العالمي، بما فيها الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن، ومنظمة التجارة العالمية، ومؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
التحدّيات بحاجة إلى استجابة
نجاح المجموعة الجديد في صياغة هذا “النظام الجديد”، سيعتمد في السنوات القليلة المقبلة على كيفية ردّها على استجابات كثيرة من صنف:
– تحديد الإطار القانوني الذي يُلزم الدول الأعضاء بتنفيذ قرارات المجموعة. فعضوية “بريكس”، أو “بريكس +” اليوم، ليست ملزمة لدولها بشيء، والتجمّع لا يملك قوّة إلزامية لأعضائه بموجب معاهدة دولية أو شرعة من أجل تنفيذ القرارات أو فرض عقوبات في حال عدم التزام الدول. وهذا يُعدّ نقطة ضعف لا بدّ من الاستجابة لها من أجل إنجاح هذا التكتّل.
– ما هو مستقبل المنافسة القائمة بين العضوين الأكبرين: الهند والصين. تشتدّ المنافسة بين الحين والآخر وتصل إلى حدود صدام “حدودي – موضعي”؟ وكيف يمكن استيعاب تلك النزعة القومية والخلافات على الحدود البرّية وفي بحر الصين الجنوبي بين أكبر دولتين من حيث عدد السكان في العالم، وربّما من حيث القدرة الاقتصادية مستقبلاً بمنافستهما على صدارة العالم اقتصادياً مع الولايات المتحدة؟
– إن لم يكن الدولار الأميركي هو العملة العالمية، فما هو البديل، أو ما هي العملة المنافسة؟ هل هي عملة خاصة باسم “بريكس” أم مجموعة عملات؟ حتى اللحظة تقول المجموعة إنّ إطلاق عملة موحّدة للمجموعة هو أمر مستبعد، لكنّها تطرح في المقابل خياراً يقوم على توسيع “التعامل البينيّ” بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار. هذا الخيار مؤقّت، لكنّه يواجه مشكلة التفاوت في العلاقات الاقتصادية بين دول “بريكس”. فالتجارة بينها ما زالت أصغر من أن تتمكّن من الحفاظ على عملة مشتركة، خصوصاً أنّ الميزان التجاري بين دول المجموعة غير متساوٍ إلى حدّ بعيد.
يقول خبراء إنّ حصّة التسويات التجارية بين دول المجموعة لا بدّ أن ترتفع إلى ما فوق 30% من حجم التعاملات التجارية العالمية، لأنّ ذلك سيكون “المنعطف الحقيقي” لبدء إرساء ذاك “النظام المالي العالمي” الجديد
من الأمثلة على ذلك ما حصل بين الهند وروسيا التي باعت الأولى أخيراً كمّيات ضخمة من النفط بالروبية الهندية، لكنّ صادرات الهند إلى روسيا أقلّ بكثير ممّا تستورده منها، ولذلك تحتفظ موسكو الآن بالروبيات التي لا تستطيع إنفاقها أو تحويلها، باستثناء شراء سلع من الهند.
لهذا لا بدّ أن يعتمد شكل الحلّ لهذه المعضلة على تكثيف التعاون بين المصارف المركزية لتلك الدول من أجل خلق مرونة في التسويات وتبادل الخدمات والسلع الحرّ. على سبيل المثال: روسيا تبيع النفط للهند، ثمّ تدفع روسيا للبرازيل بالعملة الهندية مقابل موادّ غذائية مثلاً، فتحوّل الأخيرة الروبيات الهندية مجدّداً إلى الهند مقابل سلع تكنولوجيّة… وهكذا دواليك.
– كيف ستتخلّص “بريكس +” من هيمنة الدولار إن كانت دول أعضاء كثيرة فيها ما تزال بحاجة إلى تلك العملة من أجل تسوية عمليّاتها التجارية مع الولايات المتحدة التي ما انفكّت حتى اللحظة شريكاً فاعلاً ورئيسياً لدى أغلب أعضاء المجموعة؟ وهل تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي وهي ترى قوّة عملتها تنهار وتتآكل في العالم؟
الدولار “الذي لا بدّ منه”
دول التكتّل الرئيسة (الصين مثلاً)، أو تلك المرشّحة للانضمام حديثاً (السعودية والإمارات)، تدور تعاملاتها التجارية والمالية بشكل رئيس مع مجموعة السبع الصناعية، ولم تنضمّ إلى التكتّل بدافع خلق عداء مع الولايات المتحدة، وإنّما بدافع توسيع الفرص. لهذه الاعتبارات ستبقى تلك الدول مضطرّة إلى أن تستمرّ بالتعامل بالدولار، وكذلك بتقويم نفطها وغازها بالدولار أيضاً، وذلك لسبب بسيط هو سهولة حصولها على ما يلزمها من الدولار أو اليورو من أجل تسوية معاملاتها التجارية والمالية مع الغرب المرتبطة به اقتصادياً.
– كيف ستتمكّن دول “بريكس +” من زيادة حجم التعاملات التجارية بينها في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية ومؤشّرات ضعف الاقتصاد الصيني؟ وماذا عن مستقبل النزاعات التي تؤثّر بشكل كبير على الدورة الاقتصادية العالمية (الحرب الروسية – الأوكرانية مثلاً)؟
يقول خبراء إنّ حصّة التسويات التجارية بين دول المجموعة لا بدّ أن ترتفع إلى ما فوق 30% من حجم التعاملات التجارية العالمية، لأنّ ذلك سيكون “المنعطف الحقيقي” لبدء إرساء ذاك “النظام المالي العالمي” الجديد، خصوصاً إذا ترافق مع وقف تسعير النفط والغاز بالدولار الأميركي (أقلّه بين دول المجموعة). وربّما يكون هذا هو السبب المباشر وراء اختيار “بريكس” كلّاً من السعودية والإمارات وإيران أعضاء جدداً في المجموعة.
إقرأ أيضاً: منصوري الـ”Telegenic” يعود إلى السوق و”صيرفة”.. بهدوء!
هنا أيضاً نعود إلى آليّة الإلزام (البند الأوّل أعلاه)، إذ لا شي يفرض على دول المجموعة بيع النفط والغاز بغير الدولار إلّا المصلحة الوطنية التي تُختصر اليوم بـ”الامتعاض” والتذمّر من تقلّبات الدولار التي تكبّد المصارف المركزية في العالم خسارات خلال شراء وبيع الدولار نتيجة التقلّبات في سعر صرف الدولار عالمياً. وهذا يعني أنّ الأمر سيبقى متروكاً لمصلحة كلّ دولة ضمن العلاقة بين البائع والشاري.
قد تكون هذه العقبات أمراً طبيعياً يواجه أيّ تكتّل جديد يبدأ بالظهور، لكن لا يمكن إغفالها. لا بدّ من أن تستجيب دول “بريكس +” لهذه العقبات وتجد لها الحلول حتى تستطيع بالفعل أن تؤسّس لـ”نظام عالمي جديد”، أو لـ”نظام عالمي اقتصادي” ربّما يكون قادراً على فرض شيء من التوازن في العالم الذي تحوّل في العقدين الماضيين إلى “حديقة خلفيّة” خاصّة للولايات المتحدة ولدول الغرب التي تدور في فلكها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@