فرج سليمان: طريق القدس الموسيقية مرّت من جونيه…

مدة القراءة 7 د


ليل الجمعة الفائت، صادف أن التقى 4 آلاف شخص، في نادي “O Beirut” بأنطلياس، بشابّة جميلة، بلا اسم ولا عنوان، اصطحبها معه عازف البيانو الرقيق فرج سليمان، وقدّمها لنا، كأنّنا نراها للمرّة الأولى، اسمها “فلسطين”.

وفلسطين هذه التي مرّت طريقها من جونيه والدورة، لها وجهٌ لا نعرفه. ولها أسماء كثيرة كنّا نظنّ أنّها للمدن الآمنة والساكنة، في أوروبا أو بعض دول العرب. هي “حيّ” له ذكريات لم يعرّفنا إليها أحد بعد، حتّى ظننّا أنّها غير موجودة. فهي “الصندوق الخشب وصور الألبوم”. وهي الحنين إلى “أمّ صبري” وليس إلى “خبز أمّي”. وهي “البرندة عَ البرندة”، وليست ذاكرة الزيتون. هي وصايا الموسيقى، وليست “وصايا الأرض في ريش الحمام” مثلاً. والمدن المحتلّة لم تكن بالنسبة له ساحة قتال وقتل ودماء، بل زواريب طفولته وشبابه، حيث الرجل الذي يخون زوجته، والمرأة التي يغنّي لها “شو بدّك بجوزك”، والبحث عن “أرخص ديلر”.

جاءنا شابٌّ يسعى من حيفا، يخلط الألحان الشرقية بالغربية، الجاز بالروك والكلاسيكي، ووضع فلسطين أمامنا، لكن من دون أن يسمّيها. فلسطين البيانو وليس الدبكة، الساكسوفون وليس العود. الدرامز وليس الطبلة… فلسطين الأغنية، الأسرع من الرصاص، الموسيقى، الأبقى أثراً من السلاح. وهناك كان 4 آلاف شابّ وصبيّة يتمايلون وهم يحملون هواتفهم ويصوّرونه. كانت القدس مع كأس من العائلة الكحولية، والطريق إليها من الفم إلى الشرايين، وليس من أوهام السماء وأغنياتها وأناشيدها. من أنطلياس، وليس من حارة حريك.

ليل الجمعة الفائت، صادف أن التقى 4 آلاف شخص، في نادي “O Beirut” بأنطلياس، بشابّة جميلة، بلا اسم ولا عنوان، اصطحبها معه عازف البيانو الرقيق فرج سليمان، وقدّمها لنا، كأنّنا نراها للمرّة الأولى، اسمها “فلسطين”

“إسّا جاي” يا فرج؟

فرج الذي شارف الأربعين من عمره، تأخّرت شهرته قليلاً. قبل خمس سنوات فقط، أغنية “إسّا جاي”، تجاوزت مليون مشاهدة على يوتيوب. وبدأت شهرته تكبر على المنصّات الرقمية، حتّى وصلت أغنية “في أسئلة براسي” إلى أكثر من 18 مليون مشاهدة في أشهر قليلة. وهو رقم يتجاوز أغنيات وائل كفوري الأخيرة على سبيل المثال. وبعدها بدأت أرقامه تصير “مليونية”: مليونا مشاهدة لأغنية “قلبي في آخر الليل”، ومليون لـ”شو بدّك بجوزك”، و3.3 ملايين لـ”شارع يافا”.

 

 

“سِحرُ” أغنية “إسّا جاي” أنّ الشاعر عامر حليحل كتب بيتاً واحداً منها، لكنّ فرج أصرّ على تلحينها وغنائها في إحدى حفلاته. يبدأها بجملة: “المقطع الجاي أغنية”، ويروي حكايتها المبتورة. ويغنّيها: “إسّا جاي؟ بعد ما خلص العنب ونبيذه نشّف عالكبّاي؟ / إسّا جاي؟ بعد ما بدي التعب وقلبي بتحمّلش بداي؟ إسّا جاي؟ بشال وعلبة سجاير وإيد بتهمس في حشاي/ إسّا جاي؟ وليل ونسي شكلي، نهاري قرّب عالنهاي / إسّا جاي؟ بعد ما تغبّرت الرفوف والشمس غابت عن سماي والهوا وقف محلّه والشتا مفروض هوّي جاي / إسّا جاي”.

 

وفي المقطع الثاني يردّد: “تيرارا.. تيرارارارا…”. ويصفّق له الحاضرون. أن تلحّن مقطعاً مفقوداً لأغنية، كم تشبه الفكرة فلسطين نفسها. من دون أن ينتبه المستمعون، يصفّقون للفكرة: أن نغنّي كلمات مخفيّة، أن نشعل المخيّلة بالفقدان والغياب.   

كأنّ “المقطع الثاني” في الأغنية هو فلسطين نفسها. تلك التي نردّد ألحانها من دون أن نعرف عنها شيئاً. أغنية “مقطوعة من شجرة”. لا وقت لهذا العالم لها. ويتسابق تجّار قضيّتها إلى “تيرارارارا”، من دون أن يعرفوا ماذا يقولون. لكنّها تُسكِرُ السامعين والمصفّقين…

ليل الجمعة في أنطلياس، حين قال: “المقطع الجاي أغنية”، اشتعلت الصالة. 4 آلاف كانوا يصرخون فرحاً، كما يليق بكبار المشاهير. هم الأقليّة التي تلاحق عازفين ومغنّين من “الأندرغراوند” الرقمي.. نخبة صغيرة تحبّ الاستماع إلى عزف البيانو، إلى أغنيات مختلفة عن “الماينستريم”. وتحت إصرار الجمهور أعاد الأغنية مرّة ثانية.

في مكان ما، كانت فلسطين تلِدُ نفسها مرّة بعد مرّة، بلا داية سياسية ولا مشاريع إقليمية. تشقّ بطونها وتُخرج حيناً مقاتلين، وأحياناً شعراء وموسيقيين وفنّانين، يحملونها إلى جهات الأرض كلّها

لماذا يحبّون هذا “الفلسطينيّ”؟

على يوتيوب وغيره، قد يلمع نجم مؤثّر أو فنّان بين ليلة وضحاها، فيأخذ حصّته من الشهرة، فيستثمرها في حفلاتٍ عربية وأوروبية وغيرها. لكن هنا في أنطلياس، كان بعض الحاضرين يلبسون كوفيّات. وفجأة، لمعت “فلسطينية” فرج سليمان. هو الآتي بلا أثقال القضيّة، التي نسيها جيلٌ كاملٌ من الشباب العربي. وقد باتت “القدس” و”الطريق إلى القدس” مزيجاً من نكتة مضحكة، ومن كوميديا سوداء، لكثرة ما تاجر المسلّحون بها. فذبحوا بحجّتها أجيالاً من العرب، منذ خمسينيات القرن الماضي، من أنظمة الرعب العربي واستبدادها وسجونها، إلى ميليشيات الرعب الفارسي وأسلحتها وخرابها.

قلّما يصادف أحدنا “قضيّة” في أغنية لم يكن مستعدّاً لها. وحين غنّى أغنية “في أسئلة براسي”، بدا أنّها تختصر “مزاج” أغنياته كلّها، وتضيء عليها. فهنا الفلسطينيون بينهم سارقون، ويختلفون مع نسائهم. ليسوا آلهة ولا أبطالاً. ليسوا مقاتلين. بل ناس عاديّون يعملون “في العمار” و”يهدّهم التعب”: “في أسئلة براسي، عنِّك عن الحارة، عن كيف مرق الوقت، عن شو عملتي ع السكت، إذا جد نشّف الوادي، إذا بقيت حجارة”.

 

هو المسافر إلى برلين يضيف: “شوي بتوجّع برلين، حلوة وملانة ناس، بس بشتاق لإم صبري، وبشتاقلِك إنت بالأساس”. ويسألها عن حيفا، التي تركها، مثل ملايين الفلسطينيين الذين تركوا مدنهم، مثل عشرات ملايين العرب الذين تركوا عواصمهم في العقود الأخيرة، مهجّرين من بطش الأنظمة، أو هاربين من وحوش الميليشيات أو باحثين عن لقمة عيشٍ في أوروبا أو الخليج أو دول الشتات واللجوء والهروب: “احكيلي شو بحكوا أخبار، اعطيني شو عندك نميمة، بلا خرّاف الجارات، القهوة بطّل إلها قيمة”.

هنا “نتفركش” بفتح جديد فتحه مجد كيّال، الشاعر الذي كتبها. فهو لا يشتاق إلى “أمّه” ولا “قهوة أمّه”. يشتاق “لأمّ صبري” و”القهوة بطّل إلها قيمة”. ويسأل: “بعده كل ليلة البوليس، … عَ ولاد العرب؟ بعده ماكلنا الغضب؟”. إسرائيل هنا هي “البوليس”. لا يوجد كلمة “حيفا” في الأغنية. ولا يوجد كلمة “إسرائيل”. لا يوجد “مقاومة”. يوجد “ولاد العرب” في “دولةٍ” ما.

وفلسطين هي ازدحام سكّاني أيضاً: “والبرندة عَ البرندة، أقرب من شفة عَ شفة؟… وبقولوا عنك لئيمة، إني بسببك انجنّيت، إنّك انت اللي تركتيني، ودشّرت البلد وهجّيت”. حتّى الهجرة، ليست سياسية. “هجّ” بسبب عاطفي. وتنتهي الحكاية: “ومتصل إحكي تنضغطيش، شهرين وهالحارة بتنسى، وأنا زي كل ولاد الحارة، برجع قلبي بسرعة يقسى”. حتّى “القسوة” هنا هي “قسوة قلوب” وليست قسوة المقاتلين الأشدّاء.

إقرأ أيضاً: ياسر عودة: “طَوقُ” العَمامة*

هكذا، في مكان ما، كانت فلسطين تلِدُ نفسها مرّة بعد مرّة، بلا داية سياسية ولا مشاريع إقليمية. تشقّ بطونها وتُخرج حيناً مقاتلين، وأحياناً شعراء وموسيقيين وفنّانين، يحملونها إلى جهات الأرض كلّها. منهم كان يوماً محمود درويش. وقلّما يذكر العرب مقاتلاً أو سياسياً أو يعرفونه أكثر من محمود درويش. وإنّ في ذلك ذكرى لأولي الألباب. واليوم تُنجب فلسطين “فرج سليمان”. وهو بالتأكيد “يخترع” لنا فلسطين جديدة، سنحبّها، كما نفعل دائماً، وسنظلّ.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

 

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…