يمثّل انقلاب ميليشيا “قوات الدعم السريع”، التي أصبحت قوّات نظامية بموجب قانون عام 2017، على الجيش الذي هو الحاضنة الأساسية لها، تدريباً وتسليحاً، حالة غريبة واستثنائية، بالنظر إلى التاريخ الطويل لدور العسكر في السودان منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1956، ونشوء حركات التمرّد بالتوازي مع قيام الدولة السودانية الحديثة، واستمرارها إلى لحظة الصدام الأخير، علماً أنّ أخطر التمرّدات العسكرية السابقة كان انشقاقاً عن الجيش السوداني، لا سيما في الجنوب، مع تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983، بقيادة جون قرنق (توفّي عام 2005)، وتشكيل الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهو الذراع العسكري للحركة التي نجحت أخيراً في إقامة دولة جنوب السودان عام 2011. وقامت حركات تمرّد أخرى في الغرب والشرق وصولاً إلى حركات أقلّ شأناً في الشمال والوسط، تحت معادلة المشاركة في الحكم والثروة أو الانفصال، وتلك كانت معضلة السودان الحديث منذ ولادته. ولم يحكم المدنيون السودان سوى بضعة أعوام متقطّعة، فيما حكمه الجنرالات مُدَداً طويلة، عدا الانقلابات العسكرية التي لم تنجح. ولم يستطِع الحكّام الآتون على متن الدبّابات من الاستجابة جدّيّاً للاعتراضات العرقية والجهويّة المزمنة، من الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، والعقيد جعفر النميري (1969-1985)، وإلى العميد عمر البشير (1989-2019). أمّا انقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان أخيراً بالتواطؤ مع قائد قوات الدعم السريع في 25 تشرين الأول من عام 2021، على أركان الإدارة المؤقّتة المتّفق عليها مع قوى الحرّية والتغيير، فكان مع اقتراب نقل منصب رئيس مجلس السيادة إلى ممثّل مدني في الثلث الأخير من المرحلة الانتقالية قبل الانتخابات المقرّرة، وفق ما نصّت عليه الوثيقة الدستورية الموقّعة بين المكوّنين العسكري والمدني في 17 آب 2019. حلّ البرهان مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وما تبع ذلك من إجراءات، لكنّه لم ينجح في الاستقرار وفتح صفحة جديدة من حكم العسكر، بالنظر إلى عوامل داخلية وخارجية لم تعُد تتساهل مع هذا النمط من الحكم.
الصراع الدموي بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، ستكون له آثار كبيرة على المرحلة الانتقالية وما كان يؤمل من إزاحة العسكر عن السياسة وعن السلطة
ميليشيا فوق الجيش
أمّا قوّات الدعم السريع التي برز دورها في المرحلة الانتقالية فقد خلّفت عدداً من التشكيلات العسكرية السابقة، وأبرزها قوات الدفاع الشعبي في الجنوب، وقد اشتهرت في سنوات الوفاق بين الرئيس السابق عمر البشير وقائد الحركة الإسلامية حسن الترابي (توفّي عام 2016) قبل الانفصال الرسمي بينهما عام 1999، فميليشيات الجنجويد في دارفور، وحرس الحدود، وغيرها. وقوات الدعم السريع التي تصدّت بنجاح لحركات التمرّد المسلّح في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق منذ عام 2013، باتت بحسب القانون الصادر في 16 كانون الثاني 2017 قوّات عسكرية قومية التكوين، ولها مهامّ دعم ومعاونة القوات المسلّحة والقوات النظامية الأخرى، والتصدّي لحالات الطوارئ، والدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وأيّ مهام أخرى يكلّفها بها القائد الأعلى أو المجلس (الذي لم يتشكّل). بتعبير آخر، فإنّ قوات الدعم السريع، مع توسيع نطاق مهمّاتها في الداخل والخارج، وخضوعها حصراً للقائد الأعلى للقوّات المسلّحة، أي لرئيس الجمهورية، البشير آنذاك، تحوّلت بهذا التكليف القانوني، لا إلى قوات رديفة وتابعة للجيش، بل إلى قوّة عسكرية منافسة، ويمكن القول أكثر من ذلك، إنّها كانت أحياناً كثيرة تتجاوز الجيش، الذي كان يتذمّر حتى أيام البشير، من إطلاق اليد لأفرادها في نطاق العمليّات، يرتكبون الجرائم من دون وازع ولا رادع. كانت قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) باختصار شديد، قوات حفظ النظام السياسي في مواجهة التهديدات والمخاطر، أداة في يد عمر البشير. والمفارقة هنا أنّ حميدتي كان له الدور الحاسم في إسقاط البشير، فقرار الانحياز إلى ثورة الشعب، كان قاتلاً للنظام السابق، ولم يكن ذلك من دون ثمن سياسي باهظ كما سيتبيّن لاحقاً. فمع سقوط البشير، وتشكيل المجلس العسكري، فمجلس السيادة برئاسة البرهان، تولّى حميدتي منصب النائب الأوّل للرئيس. وعليه، فإنّ حميدتي لم يعُد تابعاً لأحد، بل هو شريك متساوٍ في المكوّن العسكري، وشريك أساسي في العملية الانتقالية، بل شريك أيضاً في الانقلاب على هذه العملية قبل سنتين. ولم يعُد تفصله عن المنصب الأوّل سوى خطوة واحدة، وهي القضاء على البرهان. إنّه تناحر رفاق السلاح هذه المرّة، بأوضح معنى الكلمة، وما جرى أخيراً من انفجار الخلاف داخل المكوّن العسكري بين البرهان وحميدتي، هو إشارة ونتيجة في الوقت نفسه لفشل انقلاب البرهان بدعم من حميدتي، المعروف بمحاولاته الدائمة للتملّص من الارتكابات والفظائع التي تُنسب إلى قوات الدعم السريع، مثل ما وقع من انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في إقليم دارفور ضدّ المدنيين وثّقتها تقارير حقوق الإنسان الدولية عام 2015، ومثل فضّ اعتصام القيادة العامّة في 3 حزيران 2019، الذي أدّى إلى سقوط عشرات القتلى من المتظاهرين، وأخيراً التبرّؤ من الانقلاب الذي شارك فيه مع رئيس مجلس السيادة، الفريق البرهان، وهو نائبه الأوّل، محاولاً كسب قوى الثورة المدنية التي تشتّتت بدورها، بين مؤيّدة للانقلاب العسكري فأصبح اسمها “قوى الحرّية والتغيير – الميثاق الوطني”، ومعارضة للانقلاب فحملت اسم “قوى الحرّية والتغيير – الكتلة الديمقراطية”، مع سيولة وميوعة لا توصفان في المشهد السياسي العام، إذ كانت أحزاب تنسحب من كتلة وتنضمّ إلى أخرى، أو تنشأ أجنحة داخل الحزب الواحد، فيميل كلّ جناح إلى أحد المعسكرين. ثمّ كان التوقيع على الاتّفاق الإطاريّ في 12 أيار من العام الماضي بين المكوّن العسكري (الجيش والدعم السريع) وقوى مدنية، فبرز اصطفاف جديد، بين مؤيّدي الاتفاق ومعارضيه، فزاد تعقيد اللوحة الفسيفسائية السياسية، ونشأت تحالفات ومصالح جديدة، صنعت في المحصّلة النهائية موجبات تصفية الحساب بين البرهان وحميدتي. وتمظهرت الأزمة أخيراً داخل المكوّن العسكري (الانقلابي). فالاتفاق الإطاريّ ينصّ على إخراج العسكر من السلطة السياسية، وعلى تحديد المرحلة الانتقالية (الجديدة) بسنتين، وعلى العدالة الانتقالية بمعنى المحاسبة على الجرائم المرتكبة خلال نظام البشير، وصولاً إلى الإصلاح الأمني والعسكري. ومن أخطر مقتضياته دمج قوات الدعم السريع وحركات الكفاح المسلّح، سواء حركات التمرّد التي وقّعت على اتّفاق جوبا بتاريخ 30 تشرين الأول 2020، أو الحركات الأخرى التي لم توقّع بعد على اتفاق السلام. وكان من المنتظر التوقيع على الاتفاق النهائي على نقل السلطة إلى المدنيين مطلع نيسان الحالي، لكن ما أوقف ذلك هو الخلاف على نقطة أساسية وهي دمج قوات الدعم السريع مع الجيش. فالاتفاق الإطاريّ يشير إلى إتمام الدمج خلال المرحلة الانتقالية، أي سنتين، لكنّ حميدتي طالب بأن تمتدّ مرحلة الدمج إلى عشر سنوات، وإلى ذلك اشتراطه معايير للدمج بما يسمح بمساواة ضبّاط الدعم بضبّاط الجيش، وعلى أن يمتنع الجيش عن التجنيد في هذه المرحلة. وهذه الشروط تؤكّد الطموحات السياسية للرجل، الذي ترك الدراسة مبكراً، ليرعى الجمال ويتاجر فيها. والذي تحوّل في لحظة تاريخية إلى أمير لحرس الحدود، خلال اضطرابات دارفور، ثمّ رُقّي بسرعة ليصبح قائداً لقوات الدعم السريع التي تشكّلت بدلاً من الميليشيا القبلية المعروفة باسم الجنجويد.
محمد حمدان دقلو الملقب بـ “حميدتي”. وُلد عام 1975، من قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية التي تقطن إقليم دارفور غربي السودان، ولها امتداد إلى التشاد شمالاً
مصير التحوّل الديمقراطيّ
الصراع الدموي بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، ستكون له آثار كبيرة على المرحلة الانتقالية وما كان يؤمل من إزاحة العسكر عن السياسة وعن السلطة. فلو تغلّب الجيش أخيراً، وفرض قراره بحلّ قوات الدعم السريع، فإنّ ذلك لن يكون من دون تداعيات خطيرة. فمن السهل على قوّة قبلية وجهوية أن تتحوّل إلى قوّة تمرّد، خاصة أنّها تحوز إمكانيات وموارد كبيرة، وحميدتي يسيطر على ذهب جبل عامر ومناجم أخرى منذ سنوات، وتدرّ عليه المليارات. وحتى لو اختفى حميدتي عن المشهد، ونجا شقيقه الأكبر عبد الرحيم، القائد الثاني لهذه القوات، وهو لا يقلّ عنه شأناً، فسيستمرّ التمرّد، وبخاصة أنّه يدير أعمال المجموعة، اقتصادياً ودبلوماسياً، وكان في عداد الوفد الذي زار إسرائيل العام الماضي لتطبيع العلاقات معها. وهذا التمرّد الجديد، سيزيد من دور العسكر، ويضعف قوى الثورة. ولو تمكّن حميدتي من السيطرة على الجيش بنجاح انقلابه، فسيدخل السودان مرحلة جديدة من العسكرة، لا سيما أنّ بعض الحركات المتمرّدة ترى في قوات الدعم السريع نواة الجيش السوداني الجديد، باعتبار أنّ الجيش الحالي هو ثمرة نظام البشير والحركة الإسلامية. أمّا التوازن القلق بين الجيش وقوات الدعم السريع، حتى لو نجح الجيش في تطهير الخرطوم من فلول حميدتي، مع احتشاد قوات الدعم في معاقلها الرئيسية في دارفور، فسيفاقم اتجاه التفكّك في السودان. وهو ما حذّر منه حميدتي نفسه، قبل مدّة، حين اعتبر أنّ محاولة دمج قوّاته بالجيش تهدّد وحدة البلاد.
إقرأ أيضاً: مدافع الإفطار.. أوّل حرب في الخرطوم منذ 67 عاماً
من هو الجنرال حميدتي؟
هو محمد حمدان دقلو الملقب بـ “حميدتي”. وُلد عام 1975، من قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية التي تقطن إقليم دارفور غربي السودان، ولها امتداد إلى التشاد شمالاً. ترك الدراسة في الخامسة عشرة من عمره. وعمل في في تجارة الإبل بين ليبيا ومالي وتشاد. وكان يجني المال الوفير. لكن الحدث الذي عيّر مجرى حياته هو تعرّض قافلته للاعتداء من قطاع الطرق، فقُتل العشرات من أقاربه ونُهبت قافلة الجمال. بدأ بتشكيل قوة حماية في مناطق قبيلته تنافست مع ميلشيات قبلية أخرى. وكان الصراع يحتدم في دارفور بين العرب الرعاة والافارقة المزارعين، ومع ظهور حركات تمرد مسلح في الإقليم ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، بين عامي 2003 و2005، لجأ الرئيس المخلوع عمر البشير إلى الرعاة العرب لا سيما عشيرتي المحاميد والماهرية، لمواجهة المتمردين الأفارقة، فتشكلت منهم ميليشيا مرهوبة الجانب وشرسة، هي “الجنجويد”، بقيادة زعيم عشيرة المحاميد موسى هلال (وُلد عام 1961). مع الوقت، تجاوز حميدتي مكانة هلال لدى البشير. سيطر على مناجم الذهب في جبل عامر، وحمل رتبة عميد دون تدريب ولا تدرج، ارتقى بسرعة من مسؤول في استخبارات حرس الحدود عام 2007 بعد تمرد قصير على الخرطوم، إلى قائد قوات جديدة، باتت تُعرف باسم قوات الدعم السريع، التي حظيت بوضع قانوني منافس للجيش، من خلال سنّ قانون عام 2017، بحيث أصبحت هذه القوات الأداة المفضّلة للبشير لقتال أعدائه وحماية نظامه، حتى إن البشير كان يلقب حميدتي بـ “حمايتي”، أي الذي يحميني.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@