تبدو محاولات فهم السودان كالرّكض في بحر الرمال. لا تثبت الكثبان الرملية المتحرّكة في مكان، فالخريطة السياسية شديدة الزحام، وهي خريطة تتساوى فيها فضائل التنوّع وأسباب الفوضى.
دماء في ليلة القدر
في العشر الأواخر من رمضان اندلعت المعارك بين القوّات المسلّحة السودانية وبين قوات الدعم السريع، وهي أوّل معارك تندلع داخل العاصمة الخرطوم منذ استقلال السودان. ففيما قبل كانت المعارك في جنوب وغرب وشرق السودان، لكنّ الخرطوم لم تشهد ما حدث فيها عام 2023 منذ 67 عاماً.
منذ بداية شهر رمضان وقوات الدعم السريع تحشد لمحاصرة العاصمة الخرطوم، ومع انتصاف الشهر كانت تجري الخطّة للتوجّه إلى مدينة مروي التي تقع على بعد 350 كلم شمال الخرطوم، لأجل السيطرة عليها، ويتوازى مع ذلك تحرّك الدعم السريع باتجاه عدّة مدن أخرى.
يا لها من مفارقة. في عام 2019 شاركت قوات الدعم السريع مع الجيش في إسقاط النظام، واليوم تسعى قوات الدعم إلى إسقاط الجيش!
يريد محمد حمدان دقلو “حميدتي” أن يكون قائداً عسكرياً للبلاد، وربّما رئيساً للجمهورية، وأن يتمّ حلّ الجيش لتصبح قوات الدعم السريع هي الجيش الجديد للبلاد. هذا ببساطة موجز خطّة حرب رمضان 2023.
لا تزال مصر تتحسّس خطواتها في الأزمة، لكنّ النخبة المصرية عبّرت عن غضبها إثر استبعاد مصر من الترتيبات الدولية بشأن السودان
استعراض واعتذار
قامت “قوات حميدتي” بدفع 100 مركبة للاستيلاء على مطار مروي، وذلك في الوقت الذي كانت توجد فيه قوات مصرية محدودة جدّاً تشارك في تدريبات عسكرية تحمل اسم “نسور النيل 2″، وتضمّ قوّاتٍ جوّية ووحداتٍ من الصاعقة.
سيطرت قوات “حميدتي” في الأيام الأولى على مطار مروي وقاعدته الجوّية، وجرى بثّ صور لجنود مصريين، وبدوا كأنّهم أسرى حرب، وهو ما أثار غضباً هائلاً لدى الرأي العامّ المصري، والذي سرعان ما هدأ بعد اعتذار حميدتي وإعلان تودّده إلى مصر، وتقديره لها ولجنودها.
كان عدد الجنود المصريين قليلاً جدّاً، وقيادتهم ذات رتبة عسكرية صغيرة. وقد كان بمقدورهم المواجهة، غير أنّهم لم يضعوا أيّ طرف سوداني في خانة “العدوّ”، ولذلك تعاملوا مع الأمر باعتباره “سوء تفاهم” أكثر ممّا هو مواجهة مع خصم. وحسب تصريحات الرئيس عبد الفتّاح السيسي فإنّ القوات المصرية كانت تقوم بتدريبات مشتركة ولم تكن في إطار دعم طرف ضدّ آخر.
لا تزال مصر تتحسّس خطواتها في الأزمة، لكنّ النخبة المصرية عبّرت عن غضبها إثر استبعاد مصر من الترتيبات الدولية بشأن السودان، وعبّر المصريون عن امتعاض شديد بسبب غياب القاهرة عن الأطروحات الدولية والإقليمية بشأن الأزمة، وقد لقيت انتقادات السيد عمرو موسى لتغييب الدبلوماسية المصرية عن الجهود الدولية، وحثّه لها على العمل بحيويّة شديدة والحضور الفاعل والفوري في السودان وإفريقيا، قبولاً شعبياً واسع النطاق. كما اتهم موسى أطرافاً عربية بدعم القتال في السودان.
حقبة أخرى من اللايقين
شهدت الساعات الخمسون الأولى من المعارك مزاعم عديدة من جانب قوات الدعم السريع، التي أعلنت الاستيلاء على مركز القيادة والقصر الرئاسي والمطارات العسكرية. ولكن سرعان ما بدأت الأخبار تأخذ منحى آخر، وشرعت الصحف السودانية تنشر أنباء انكسار قوات الدعم السريع، واستسلام العديد منهم.
في الخمسين ساعة الأولى نقلت وسائل إعلام عن “المستشار السياسي” لقوات الدعم السريع أنّهم يسيطرون على 95% من الخرطوم وأمّ درمان، وعلى كلّ الجسور والمطارات والقصر الرئاسي، وفي الساعات التالية تبدّد الكثير من ذلك، مع إعلان الجيش السيطرة، وانحسار المعارك في المناطق السكنية المزدحمة التي تمركزت فيها وحدات من الدعم السريع. ثمّ تبدّدت أكثر مع إعلان قائد قوات الدعم السريع “حميدتي” احتياجه إلى الدعم الدولي، واستغاثته بالقوى الخارجية لمساعدته على مواجهة الجيش.
الهشاشة هي عنوان المشهد العامّ في السودان، وما بين احتمالات أن تنتهي المعارك بحلول عيد الفطر المبارك، أو أن تكون بداية حرب أهلية مفتوحة، يسيطر اللايقين على ذلك البلد الثريّ بالموارد، والغنيّ بالثقافة، والمأزوم بالقيادة.
أصول إخوانيّة
كان الرئيس عمر البشير رأس النظام الإخواني في السودان، وهو مَن تبنّى قوات الدعم السريع، وبعد سنوات من تعامل الجيش معها باعتبارها ميليشيات مساندة، قام البشير بمحاولة لشرعنة أوضاعها، لكن من دون حسم أو وضوح بشأن مآلات تلك الشرعنة.
انقلب حميدتي في النهاية على البشير، لكنّه كان دوماً رجل الإخوان في دارفور، وأحد أركان القوّة الباطشة للنظام في الخرطوم، ويتّهمه ثوار 2019 من قوى الحرّية والتغيير بارتكابه مذابح بحقّهم، فضلاً عن اتّهامه بجرائم عديدة طوال سنوات حكم البشير.
حاول حميدتي أن يهاجم الإخوان ليكسب تعاطف الرأي العامّ معه، ولتضليل بعض المراقبين، والتغطية على ماضيه الذي تحالف فيه مع الإخوان منذ النشأة حتى قبيل سقوط البشير. وفي هذا الإطار دعا حميدتي المجتمع الدولي إلى الوقوف في وجه الفريق البرهان قائد الجيش باعتباره متطرّفاً إسلامياً، وباعتبار أنّ قوات الدعم السريع تواجه المتطرّفين الإسلاميين الذين يحكمون القوّات المسلّحة.
مدافع الإفطار
لم يعد مدفع الإفطار، حسب تقاليد قديمة في مصر والسودان، هو ذلك المدفع الرمزي الذي يحدّد موعد أذان المغرب، بل أصبح مدفعاً حقيقياً يهدّد ملايين السودانيين.
ارتفعت ألسنة النيران في قلب العاصمة، وبدلاً من صور الإفطار كانت صور الدخان المتصاعدة من أماكن متفرّقة. وفي أوّل 70 ساعة قُتِل أكثر من 200 شخص، وسط صدمة متوقّعة، وكارثة كانت منتظرة.
مع صوت المدافع والرصاص كانت الكهرباء قد انقطعت، وكان السلب والنهب للمحالّ التجارية والممتلكات في ذروته. وقد ناشد الجيش كما ناشدت عدّة سفارات المواطنين والرعايا البقاء في منازلهم، بينما كانت المنظمات الحقوقية تحذّر من نفاد الماء والغذاء خلال أيام، وكان الأمين العام للأمم المتحدة يصرخ محذّراً من هول الكارثة الإنسانية إذا ما استمرّت الحرب.
بالتوازي مع ذلك انقطع البثّ التلفزيوني الرسمي، بعدما سمع المشاهدون أصوات الرصاص خارج الاستديو. وبعد سيطرة مؤقّتة لقوات الدعم السريع، استعاد الجيش مبنى الإذاعة والتلفزيون من جديد.
رفض الجيش مبادرات الوساطة الخارجية، وأعلنت الحكومة أنّها ماضية في القضاء على الدعم السريع واستعادة الدولة.
إسرائيل تدعم قوات الدعم السريع..
إعتبرت صحيفة التايمز البريطانية محاولة قوات الدعم السريع السيطرة على قصر الرئاسة محاولة انقلاب، ووصف الجيش السوداني قوات الدعم بـ”المتمرّدين”، وأمر الفريق أول عبد الفتاح البرهان بحلّها.
ثمّة تعقيدات دولية بشأن المشهد لا تقلّ عن التعقيدات الداخلية، إذْ تبدو روسيا، برأي البعض، داعمة لقوات الدعم السريع، ويساند الإعلام الإسرائيلي هذه القوات منذ قرابة عامين، وقد واصل دعمه لها في معارك 2023 على الرغم من إعلان إسرائيل أنّها تتواصل مع كلّ الأطراف.
قال لي وزير سوداني سابق: فتِّش عن الذهب، فالذهب السوداني الذي تنهش فيه أطراف خارجية بمساعدة حميدتي يقف وراء كثير من الحسابات المعقّدة. وقال لي مسؤول سوداني آخر إنّ بقاء قوات الدعم السريع يمثّل بحدّ ذاته خطراً على مستقبل البلاد، وأيّة تفاهمات معها هي تفاهمات مع حفنة من الذئاب سرعان ما ستحاول الانقضاض من جديد. إنّهم لن يشبعوا أبداً، ولن يلتزموا أيّ اتفاق ما لم يصلوا إلى السلطة، وما لم يتمّ الحسم اليوم فإنّ الحرب مقبلة لا محالة. فالتهدئة والمفاوضات لن تكون سوى استراحة محدودة ستمضي حتماً إلى صوت الرصاص من جديد.
إقرأ أيضاً: السودان: صراع “عسكر البشير”!
الحرب الأهليّة قادمة
ثمّة من ينظرون إلى المعارك الجارية من منظور عرقي، إذ يزعمون أنّ قوات الدعم السريع تمثّل مكوّنات إفريقية في السودان في مواجهة الجيش ذي الهويّة العربية، والإقصائي للهويّات الأخرى في السودان. وهذه النظرة غير موضوعية وتستهدف وضع إطار ديمقراطي لرجل حرب نشأ وصعد خارج الجيش والسياسة، وبقوّة السلاح ودعم الإخوان.
أدانت الجامعة العربية الأحداث وعرضت التدخّل للوصول إلى حلّ. وبينما تريد قوات الدعم السريع “تدويل” الأزمة، فإنّ الجيش يرفض أيّ دور للخارج، باعتبار أنّ القضاء على متمرّدي الدعم السريع هو شأن داخلي.
كان سقوط حكومة حمدوك عام 2021 بداية العدّ التنازلي لكلّ شيء في السودان. وبينما جاء “الاتّفاق الإطاري” لتصحيح المسار، جاءت “معارك ليلة القدر” في الخرطوم لتدفع الحرب الأهلية في البلاد إلى المسافة صفر.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@