من لبنان أشرف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني على عملية إطلاق الصواريخ من لبنان باتجاه إسرائيل ردّاً على تطوّرات المسجد الأقصى والاشتباكات الرمضانية الموسمية بين المصلّين المسلمين والشرطة الإسرائيلية.
ومن غزّة أطلّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بخطاب غير مسبوق موجّه لأهل غزّة عبر الدائرة التلفزيونية، متحدّثاً عن المقاومة والتزام طهران بدعمها لتحرير القدس.
وبموازاة ذلك كانت بعض المخيّمات اللبنانية تشهد عراضات عسكرية ميليشياوية تحت لافتات وصور وشعارات تمجّد إيران وقادتها، في يوم القدس.
يحصل ذلك بموازاة التفاهمات التي تعقدها إيران مع المملكة العربية السعودية على وجه التحديد، متابعةً للاتفاق الذي أُبرم بين البلدين برعاية صينية في بكين، وبعد نحو أربع سنوات من الحوار السياسي الذي تدخّلت فيه دول عدّة أبرزها العراق وسلطنة عمان.
هذه الازدواجية في الاستراتيجية الإيرانية بين المصالحات مع دول الخليج، ولا سيما السعودية، وبين المضيّ قُدُماً في الخطاب المقاوماتي في المشرق العربي، تعبّر بشكل صادق ودقيق عن حدود ما يمكن للتفاهمات مع إيران أن تحقّقه على مستوى الاستقرار والأمن.
من غزّة أطلّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بخطاب غير مسبوق موجّه لأهل غزّة عبر الدائرة التلفزيونية، متحدّثاً عن المقاومة والتزام طهران بدعمها لتحرير القدس
فإيران لم تتغيّر بعد هذه التفاهمات، إنّما تتأقلم مع معطيات خاصة لديها، لا سيما المعطى الاقتصادي الذي بات يضغط بشكل خطير على تماسك النظام السياسي في إيران، مقروناً بحجم التظاهر والاحتجاج الشعبي الذي وإن خفت راهناً إلا أنّه تعبير عن تآكل شرعية النظام السياسي الإيراني.
إذاً تريد إيران من الاتفاق مع السعودية أن تكسر عزلتها وأن تستثمر هذا الاتفاق لاستدراج نوع من خطوط الإمداد المالية والاقتصادية التي تساعدها على تجاوز تبعات الانهيار الاقتصادي.
“أمن السعودية” و”اقتصاد إيران”
كان لافتاً في هذا السياق كشف وزير المالية السعودي محمد الجدعان، خلال منتدى القطاع الخاص الأوّل لصندوق الثروة السيادي السعودي في الرياض، وهو المحرّك الرئيسي للاقتصاد المحلّي، أنّ الاستثمارات السعودية في إيران “يمكن أن تحدث سريعاً جداً” بعد اتفاق استئناف العلاقات بين البلدين.
أمّا السعودية فتراهن على الاتفاق لإغلاق ملفّ حرب اليمن والاستفادة من خفض الإنفاق العسكري واستثمار ذلك في مشروع التنمية الداخلية وتنويع الاقتصاد، كما استثمار مناخ الاستقرار لجذب الاستثمارات وتعزيز السياحة وتحسين الصورة الدولية للمملكة، التي تضرّرت جرّاء طغيان الجانب الإنساني القاسي على السرديّة الغربية الإعلامية والسياسية للحرب في اليمن.
بهذا المعنى تراهن السعودية على أن يساعد حلّ النزاع في تحسين توقّعات تحقيق أهداف رؤية 2030 وتمكين المملكة العربية السعودية من إعادة تركيز جهودها على تنويع الاقتصاد والتحديث.
أمّا السعودية وإيران معاً، فلديهما مصلحة مشتركة ولأسباب مختلفة في مغازلة الصين واستثمار العلاقة معها، وهو ما سهّل هذا الاتفاق في بكين. فإيران تحتاج إلى صورة العلاقات الصينية الإيرانية لتبديد صورة عزلتها الدولية، والسعودية ماضية في تعزيز العلاقات الصينية مع المملكة في ظلّ عدم الاطمئنان إلى ثبات وديمومة العلاقات الاستراتيجيّة والتاريخية مع أميركا.
لا يسمح هذا التباعد في أهداف كلّ من السعودية وإيران، بإنتاج أهداف مشتركة للاثنتين تتعلّق بتصوّر لاستقرار أوسع في الشرق الأوسط. وهو ما يعني أنّ حدود الاتفاق لا تتجاوز الأمن السعودي المباشر والاقتصاد الإيراني المباشر مع إمكانية فتح المجال أمام شكل من أشكال إدارة الأزمات وليس حلّها كما هو حاصل مع سوريا.
تريد إيران من الاتفاق مع السعودية أن تكسر عزلتها وأن تستثمر هذا الاتفاق لاستدراج نوع من خطوط الإمداد المالية والاقتصادية التي تساعدها على تجاوز تبعات الانهيار الاقتصادي
صورة “الصراع العربي الإسرائيلي”
في الجانب الآخر الذي يفسّر ازدواجية السياسة الإيرانية، تسعى إيران عبر المشهديّات التي قدّمتها في غزّة ولبنان إلى إعادة إنتاج مناخ الصراع الإسرائيلي العربي والإسرائيلي الإسلامي من خلال استثمار “لحظة الأقصى”، بهدف تخريب المناخ السياسي الحاضن للاتّفاق الإبراهيمي الذي قادته دولة الإمارات.
فمن جهة تريد إيران تحييد السعودية عن إمكانية الذهاب باتجاه تفاهمات مع إسرائيل، ومن جهة ثانية تريد لإعادة إنتاج مناخ الصراع أن يضعف الأسس التي قام عليها الاتفاق الإبراهيمي الذي تراه إيران اتّفاقاً يشكّل خطراً عليها وعلى سرديّتها في الشرق الأوسط ويطرح أمام شعوب المنطقة نموذجاً جديداً وخياراً مختلفاً لفهم المصالح وتصوّر المستقبل.
من غير الواضح الآن ما إذا كانت إيران عبر هذه الاستراتيجية المزدوجة قادرة على تحقيق التوازن بين السياسات المتناقضة التي تعتمدها لحماية تأثيرها الإقليمي المستقبلي، لأنّ ذلك سيعتمد على تصرّفات الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الأخرى، لا سيما إسرائيل. فليس من مصلحة إسرائيل أن يؤدّي التقارب بين السعودية وإيران إلى تعزيز موقع إيران في المنطقة، وأن يمنحها موارد إضافية تستخدمها في رعاية ميليشيات الحزب و”حماس” و”الجهاد” وغيرها، لا سيما في ظلّ الاعتقاد أنّ التفاهمات الأخيرة غير قادرة على تعزيز الاستقرار العامّ في الشرق الأوسط وتقليل مخاطر نشوب حروب جديدة.
إقرأ أيضاً: دبلوماسيّون غربيّون عن صواريخ الجنوب: الرسالة وصلت
كما ليس من مصلحة إسرائيل أيضاً التوسّع العربي باتّجاه التطبيع الشعبي مع إيران وإضعاف حال الاستنفار الإعلامي والسياسي ضدّها، لا سيما في ظلّ تنامي التهديد الإيراني النووي. وعليه سيكون لردود الفعل الإسرائيلية وكيفيّات تموضعها حيال الاتفاق الإيراني السعودي دور كبير في تحديد مصير الديناميّات الجارية في الإقليم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@