غواصة نووية في المنطقة: America is back؟

مدة القراءة 7 د

تعرّض موقع أميركي قرب الحسكة في سوريا في 23 آذار لهجوم مسيّرة أدّى إلى مقتل متعاقد أميركي وجرح آخرين. وما بين الردّ والردّ على الردّ بقي الأمر تقليدياً في مسار تعامل القوات الأميركية مع “المتحرّشين” أيّاً كانت هويّاتهم ودوافعهم وحسابات مواقيتهم.
اتُّهمت فصائل موالية لإيران بارتكاب “الإثم”. لم تعلّق طهران على الفعل، بل غضبت من ردّ الفعل الذي أودى بحياة عدد من “مستشاريها” في مواقع مختلفة في البوكمال وأطراف الميادين وغيرها. والمفارقة أنّ المنابر الرسمية الأميركية لم توجّه الاتّهام إلى إيران بالوقوف وراء هجمات الحسكة وحقلَيْ العمر النفطي وكونيكو للغاز، واكتفى الرئيس جو بايدن بأن طلب من إيران، ناصحاً، عدم دعم هذه الهجمات.
لم يقصّر الطرف الأميركي في إظهار ردّ مؤلم وساحق ضدّ الجهات المفترض أنّها مسؤولة عن اعتداءٍ قتَل مواطناً أميركياً. فعل ذلك سابقاً حين تعرّضت قاعدة التنف على الحدود السورية العراقية الأردنية لهجمات متعدّدة على مدى السنوات الماضية، أو حين حاولت قوات تابعة لشركة “فاغنر” الروسية الاقتراب من مواقع أميركية في شباط 2018 في منطقة قرب بلدة خشام ضمن محافظة دير الزور. حينها سقط مئات من قوات الشركة الروسية الأمنية الخاصة من دون أيّ “تلاسن” بين واشنطن وموسكو.

لم يقصّر الطرف الأميركي في إظهار ردّ مؤلم وساحق ضدّ الجهات المفترض أنّها مسؤولة عن اعتداءٍ قتَل مواطناً أميركياً. فعل ذلك سابقاً حين تعرّضت قاعدة التنف على الحدود السورية العراقية الأردنية لهجمات متعدّدة

لماذا غواصة نووية الآن؟

إذا ما اكتفت الولايات المتحدة باعتماد النهج الروتيني حيال “حوادث” من هذا النوع ولم تذهب إلى اتّهام مباشر لطهران وصبّت نيرانها على فصائل تابعة لها، فما الذي أيقظ الولايات المتحدة فجأة على أخطار استراتيجيّة كبرى تُحضّر لها طهران استدعت الدفع بالحشود العسكرية البحرية إلى المنطقة، بما في ذلك إرسال غوّاصة “يو إس إس فلوريدا” الاستراتيجيّة النووية لدعم أسطولها الخامس تحت مسمّى حراك الردع؟
برّرت واشنطن قرارها بمعلومات استخبارية تتحدّث عن خطط إيرانية للقيام بهجمات. لم تفصح عن طبيعة هذه الخطط وماهيّة هذه الأخطار المستجدّة الداهمة التي لم تلحظها الإدارة الأميركية قبل ذلك. وحتّى ما ذكرته “نيويورك تايمز” عن اعتداءات كانت ستستهدف سفناً تجارية مملوكة لإسرائيليينن، فهو أمر ليس جديداً يبرّر هذا الهلع. ولم يسبق لواشنطن أن حشدت بحريّتها ضدّ “الهدف الإيراني”. حتى حين استهدفت طهران مصالحها بدءاً باحتجاز الدبلوماسيين في إيران (1979-1981)، مروراً بقصف ثكنة المارينز في بيروت (1984)، وليس انتهاء بمناوشات فصائل إيران ضدّ مواقع أميركية في سوريا والعراق.
ولئن لا تستبعد السوابق الإيرانية احتمالات ما كشفته مخابرات الولايات المتحدة حديثاً، فإنّ واشنطن نفسها هي التي دأبت على تخفيف وجودها العسكري وسحب صواريخ الباتريوت (وأعادت في أواخر آذار نشر طائرات هجومية قديمة من طراز A-10 في الشرق الأوسط لتحلّ محلّ الطائرات المقاتلة الأكثر تقدّماً التي سيتمّ نقلها إلى المحيط الهادئ وأوروبا). هذا على الرغم ممّا كانت صواريخ إيران ومسيّراتها ترتكبه من أخطار ناجزة ضدّ السعودية والإمارات وما كانت تهوّل به من أخطار دائمة ومقبلة على بلدان المنطقة.

أميركا منزعجة من “اتفاق بكين”

يجري الحراك العسكري الأميركي وقرع طبول الردع الكبير متواكباً مع زيارة غير معلنة كُشف عنها النقاب لمدير وكالة المخابرات المركزية CIA وليام بيرنز للسعودية. سرّبت الإدارة لـ”وول ستريت جورنال” أنّ الرجل أعرب هناك عن انزعاج بلاده من الاتفاق الذي أبرمته الرياض مع طهران في بكين في 10 آذار الماضي برعاية الصين. 

تكتشف واشنطن فجأة أخطاراً إيرانية ضدّ المنطقة وتتطوّع سريعاً للدفاع عن الأمن والاستقرار فيها والسهر على سلامة ممرّاتها المائية. تستنتج ذلك على الرغم من أجواء الوئام التي تنفخ بها طهران باتجاه المنطقة عامّة

ويحصل الحراك أيضاً بعد أسابيع من تقارير أصدرها البنتاغون تحدّثت عن قيام مقاتلات روسية بالتحليق فوق قاعدة التنف الأميركية في سوريا 25 مرّة خلال شهر آذار الماضي.
يحدث الحراك أيضاً وأيضاً إثر ظهور كمّ كبير من المقالات وأوراق البحث في الولايات المتحدة ومواقف من الكونغرس تحذّر واشنطن من تراجع موقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، موصيةً وناصحةً بعودة سريعة وترتيب حدائق لطالما اعتُبرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية جزءاً من نفوذ الولايات المتحدة التقليدي في العالم.
تكتشف واشنطن فجأة أخطاراً إيرانية ضدّ المنطقة وتتطوّع سريعاً للدفاع عن الأمن والاستقرار فيها والسهر على سلامة ممرّاتها المائية. تستنتج ذلك على الرغم من أجواء الوئام التي تنفخ بها طهران باتجاه المنطقة عامّة، والسعودية ودول الخليج خاصّة. تتفاقم أخطار إيران على نحو عاجل في أروقة البيت الأبيض على الرغم من لقاء وصفه وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان بـ”الممتاز” مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في بكين أيضاً وبرعاية الصين أيضاً وأيضاً. وتتدافع الأخطار الإيرانية التي تحتاج إلى همّة أميركية لردعها، فيما همهمات تتحدّث عن قرب قيام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بزيارة السعودية قبل نهاية شهر رمضان.
شيء ما يوحي بارتباك في إدارة الولايات المتحدة لأزماتها في الشرق الأوسط. استسهلت واشنطن وفق هذا الارتباك إظهار الواجهة العسكرية التي قامت على أساسها منذ الخمسينيات توجّهاتها الاستراتيجية وخياراتها في السياسة الخارجية. ولئن جاهر البنتاغون بما يُفترض أن يكون سرّاً عسكرياً حين كشف عن إرسال غواصّته النووية وتباهى في 8 آذار بالإعلان عن عبورها قناة السويس، فذلك لأنّ الحشد العسكري الأميركي البحري للولايات المتحدة ذو رسائل سياسية موجّهة لمن يهمّه الأمر أكثر من كونه ذا رسائل عسكرية.

فتّش عن “الاتفاق النووي”

في الرسائل ما مقصده إيران طبعاً في موسم الحديث عن مفاوضات صعبة للتوصّل إلى اتفاق ولو جزئياً بشأن البرنامج النووي، ولمناسبة تحرّشات طهران العبثية بالمواقع الأميركية في سوريا. 
في الرسائل أيضاً مقاصد مفادها أنّ المنطقة التي تعتمدها الصين مورداً أساسياً استراتيجيّاً للطاقة على مدى العقود المقبلة تخضع لقواعد الأمن التي يضعها البنتاغون وتمليها معلومات الأجهزة والمخابرات الأميركية. 
في الرسائل ما هو لدول المنطقة التي توطّد علاقاتها مع بكين وترتّب علاقاتها مع طهران وتعيد الوصل مع دمشق، ولا سيما للرياض، الحليف الكبير والعريق لواشنطن، التي تقدّمت فوق ذلك خطوةً مهمّة باتجاه “منظمة شنغهاي للتعاون”… وما يفيد بأنّ العامل الأميركي ما زال، كما عهده منذ عقود، ناظماً حصرياً للخرائط الجيوستراتيجية وفق أبجديّات الحرب الباردة وما بعدها.

إقرأ أيضاً: أميركا في مواجهة روسيا والصين

هي رسائل موجّهة صوب الصين أصلاً وروسيا فرعاً، تؤكّد أن لا شيء تغيّر في النظام الدولي ولا تزحزح في خطوطه الكبرى، خصوصاً في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج.. وأنّ استراتيجية الردع الكبرى ضدّ الصين وروسيا تشمل الشرق الأوسط لا الاستغناء عنه.
نستمع بعناية للخبراء الأميركيين وهم يؤكّدون أن ليس من مهامّ الغوّاصات الاستراتيجية النووية أن تنخرط في الردّ على عمليات مجموعة هنا وفصيل هناك، وأنّ تلك الغوّاصات تتموضع داخل تشكّلات الأسطول الأميركي من أجل مهامّ ردع استراتيجي قد تكون الحرب جزءاً منه. على هذا تطلّ الغوّاصة النووية وأخواتها هذه الأيام لتقول لمن يهمّه الأمر، وربّما بتلعثم وارتجال، ما ردّده بايدن حين وصل إلى البيت من أنّ America is back… من دون أن يُقنع أحداً.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…