مهما ادّعت إسرائيل أنّها تعلم مسبقاً بما يحدث لها، خصوصاً في ما يتّصل بأمنها، إلا أنّها فوجئت هذه المرّة بكثافة الصواريخ التي هبطت عليها من جنوب لبنان.
لقد تجلّت المفاجأة بالارتباك الذي ظهر جليّاً على موقفها. ومردّه أنّها وهي بأمسّ الحاجة إلى هدوء على الجزء اللبناني من الجبهة الشمالية، لا بدّ أن تردّ.
دار الجدل حول كيفية الردّ ونوعه في الاجتماعات المتعدّدة التي عقدت على المستوى الأمني، والمستوى السياسي، وخلاصتها قرار بالردّ اتّخذته “الكابينت”، أي القيادة المصغّرة للحكومة الواسعة.
خلال الساعات القليلة التي تلت القصف الصاروخي هدأت الأمور وتنفّس الوسطاء واللاعبون المباشرون الصعداء. حين توقّفت المعركة عند قصف محدود لغزّة، وقصف تجنّب إثارة الحزب، وتهدئة في الأقصى ربّما يطول عمرها إلى ما بعد عيد الفطر.
العقلانيّة الاضطراريّة
جميع أطراف اللعبة الوسطاء التزموا مواقف يمكن وصفها بالعقلانية الاضطراريّة، أساسها الخوف من خروج الأمور عن السيطرة، والرعب من الخسائر الفادحة التي سيدفعها كلّ طرف مادّياً وسياسياً، وما يزال في الذاكرة القريبة قصف المدن الإسرائيلية، وتعطيل الحياة فيها باستيطان الملاجئ، والخسائر الاقتصادية الفادحة. وقابل ذلك تدمير غزّة عدّة مرّات وبوحشيّة وقسوة، بحيث لم تُرفع حتى الآن أنقاض الكثير ممّا دُمّر، وخلاصة ذلك إفقار أهل غزّة، وبوسعك تخيّل كيف هو حال الناس حين تتضافر حرب تدميرية مع حصار خانق على بقعة صغيرة من الأرض يعيش عليها ملايين البشر!
مهما ادّعت إسرائيل أنّها تعلم مسبقاً بما يحدث لها، خصوصاً في ما يتّصل بأمنها، إلا أنّها فوجئت هذه المرّة بكثافة الصواريخ التي هبطت عليها من جنوب لبنان
أمّا لبنان الذي انطلقت الصواريخ من أرضه، فكان مفضّلاً لدى الجميع اعتبارها فلسطينية، لاختصار الردّ على بعض المواقع الثانوية، التي لها ميزة واحدة، وهي أنّها ليست من جسد الحزب. وفي ذاكرة هذا الحزب ليس مجرّد الدمار الواسع الذي حدث قبل سنوات، وإنّما تهديدات إسرائيل باستهداف البنية التحتية اللبنانية كلّها، في ظرف يحتاج فيه لبنان الى أبسط مقوّمات الحياة الأقلّ كثيراً من عاديّة. في الدمار الواسع الذي لم يقتصر على الضاحية، وجد لبنان من يخفّ لمساعدته على تجاوز ما حدث. غير أنّ الواقع في الوقت الراهن أن لا أحد ضمن جبهة الوسطاء من أعلى الهرم، البيت الأبيض، يريد الآن سماع طلقة واحدة من وعلى إسرائيل، ولا يفارقه همّ التهدئة مع الفلسطينيين، فما بالك بالدخول اللبناني على الخط، والاحتمالات المتوقّعة لاتّساع النار.
أمّا المصريون، أصحاب الجهد المتواصل للتهدئة، خصوصاً على جبهة غزّة، فلن يفارق ذاكرتهم نزوح خمسمئة ألف فلسطيني وربّما أكثر في يوم واحد إلى سيناء، بفعل القصف الإسرائيلي التدميري. وهذا العدد المهول لو بقي بعضٌ منه على أرض مصر، فسيكون ذلك بداية لمخيّم أو مخيّمات جديدة، ولك أن تستنتج ما ستذهب إليه الأمور بعد ذلك. وحتى قبل التطوّر الجديد مع لبنان، ومنذ بداية الاشتعال في الأقصى، تبذل مصر جهداً ملحّاً لتطويق النار، وعدم بلوغها حالة من الاشتباك الأوسع، خصوصاً مع غزّة، بما ينذر بكارثة جديدة.
الردّ الإسرائيلي المحدود
في حالة كهذه التي انطلقت شراراتها من المسجد الأقصى، حيث المسؤولية الهاشمية عنه وعن الأوقاف، وتتولّى إدارة شؤونه الدولة الأردنية، فلن يستطيع الأردن التغاضي عمّا يحدث في ذلك المكان، الأشدّ تأثيراً على عواطف وانفعالات الشعب الأردني الذي يحرج الحكومة بمطالبتها بالقيام بما لا تستطيع، حيث الإجماع شعبياً وبرلمانياً على طرد السفير الإسرائيلي، مشفوعاً بطلب عمل كلّ شيء لإنقاذ الأقصى والقدس وفلسطين.
الخلاصة…
– إسرائيل هربت إلى الردّ المحدود، وتبرئة الحزب ممّا حدث.
– الفصائل الفلسطينية حفظت ماء وجهها بتنفيذ متعقّل لتهديداتها، وفعلت أقصى ما تستطيع بأقلّ قدر من الخسائر لتعود التهدئة إلى ما كانت عليه قبل موقعة الأقصى الأخيرة.
– الوسطاء جميعاً، من أميركا إلى أيّ طرف إقليمي أو محلّي، وجدوا آذاناً صاغية لنصائحهم عند الجميع.
إقرأ أيضاً: تبادل خدمات… ورهينة اسمها لبنان
الجالسان في مقاعد المتفرّجين هما طرفان متشابهان في الحالة، ونعني بهما السلطة الفلسطينية والحكومة اللبنانية، حيث الشرعيّتان عاريتان عن القدرة، لكنّهما العنوانان المعتمَدان لتلقّي الرسائل والتهديدات.