الصواريخ التي انطلقت من جنوبي صور باتجاه المستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، يوم السادس من نيسان/أبريل الجاري، تختلف نوعياً عن الإطلاقات المتفرقة من الجنوب اللبناني، والتي رافقت حروب غزة مع الجيش الإسرائيلي منذ عام 2008، أو في ذروة التوترات في الداخل الفلسطيني بسبب أو آخر. هي غير مختلفة عن الصواريخ السابقة، من حيث المستوى التقني، والمدى، بل في كيفية اندراجها في استراتيجية مختلفة عن كلّ الإطلاقات السابقة. فهذه المرة الأولى التي تُرسل فيها عشرات الصواريخ على نحو متزامن إلى أهداف محددة بدقة كي لا توقع خسائر غير مطلوبة تكتيكياً، في سياق حملة مدروسة لاستجرار الردّ الإسرائيلي والبناء عليه بجملة الأحداث المتعاقبة المعتادة التي تنتهي باتفاق وقف إطلاق النار بوساطات وتدخلات من جهات عربية ودولية مختلفة، فترسخ معادلة أو تخترع معادلة جديدة، وذلك منذ انفضاض حرب تموز/يوليو عام 2006، وصدور القرار الدولي رقم 1701. والمعنى، أن من أطلقها ليس مجموعات صغيرة ومعزولة؛ أسلحتها بدائية، ولا تمتلك الأمن ولا الوقت الكافيين لنصب الصواريخ وتحديد إحداثياتها وإطلاقها. ولذا، كان تشخيص العدو الإسرائيلي للجهة الفاعلة منذ الساعات الأولى بأنها ليست سوى حركة حماس.
إذاً، الحدث الحقيقي، ليس إطلاق الصواريخ من لبنان، بل قيام حركة حماس، أقوى الحركات الفلسطينية حالياً، عدداً ومدداً، بالفعل المذكور، بالتزامن مع وجود إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة في لبنان، كأن الهدف الخاص لزيارته إنفاذ العملية تحت إشرافه المباشر، افتتاحاً لعصر جديد، يعود فيه لبنان، ساحة قتال مع إسرائيل، بأيدٍ فلسطينية، ومن دون التبنّي العلني لأعمال القصف، وذلك بعد تصالح الحركة مع النظام السوري، العام الماضي، فتتصل الجبهة من عمق سوريا إلى أقصى قطاع غزة، تحت شعار: وحدة الساحات وتكامل الجبهات.
محاولة استدراج إسرائيل لمواجهة مزدوجة، قد يكون لها وجه آخر لا يقل خطورة
كانت ضربة صاروخية محدودة، استدعت رداً إسرائيلياً محدداً. فإسرائيل مأزومة داخلياً، ومنقسمة على نفسها عمودياً بين علمانيين ومتدينين، بشدة غير مسبوقة منذ إعلان قيام الكيان عام 1948، ومقيّدة بمقتضيات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة والعالم (إدارة بايدن لا تريد التشويش على مفاوضات متعثرة للاتفاق نووياً مع إيران، و لا على أوكرانيا وهي تستعد لشن هجومها الربيعي المضاد على القوات الروسية المحتلة). وحكومة نتنياهو لا تريد ولا تقدر على التورط في حرب جانبية مع حلفاء إيران في المنطقة، فيما كانت تتهيأ نفسياً ولوجيستياً لعملية عسكرية كبيرة ضد المواقع النووية في إيران. لو انزلقت في هذه الحرب قبل أوانها، إذ هي متوقع حدوثها على هامش الحرب الإسرائيلية الإيرانية، فإنها ستكون إجهاضاً استباقياً للجهد الرئيسي الذي يخطط له نتنياهو منذ مدة. وربما كان هذا من أهداف صواريخ حماس؛ فإن تدحرجت الأحداث إلى حرب قصيرة، تحصّلت جملة من الأهداف التكيتيكية والاستراتيجية المهمة، وليس رسم قواعد اشتباك جديدة في المنطقة، إلا أحد هذه الأهداف. نتنياهو انتبه إلى هذا الفخ، فكان حريصاً على أمرين: عدم الرد في الوقت نفسه على لبنان وقطاع غزة حتى لا تكون سابقة، اجتماع الساحتين في المواجهات المقبلة، وعدم الإمعان في الرد حتى لا يتورط في حرب شاملة لا يريدها الآن.
فمنذ سيطرة حماس على قطاع غزة، تندلع حروب قصيرة غير حاسمة بالنسبة لإسرائيل، لكنها معالم على طريق الخط التصاعدي لقوة حماس، تسليحاً وتخطيطاً؛ أي من عملية الرصاص المصبوب/معركة الفرقان بين 27 كانون الأول/ديسمبر 2008 إلى 18 كانون الثاني/يناير 2009، وعملية عمود السحاب/حجارة السجيل بين 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2012 و21 من الشهر نفسه، وعملية الجرف الصاعد/العصف المأكول بين 7 تموز/يوليو 2014 واستمرت 51 يوماً، وعملية حارس الأسوار/سيف القدس في 10 أيار/مايو 2021 واستمرت 11 يوماً. فضلاً عن معركتين أخريين أقل حجماً بعد اغتيال قادة من حركة الجهاد الإسلامي، عامي 2019 و2022 على التوالي.
خلاصة هذه المواجهات، وضع إطار زمني ومكاني محدد لا تتعداه، ما يسمح بوقف إطلاق النار، وعدم المضي إلى آخر الشوط. وبالمقابل، تُراكم حماس والفصائل الأخرى، رصيداً نفسياً وسياسياً وعسكرياً. أما محاولة استجرار معركة أخرى، ومن لبنان تحديداً، مع أن إطلاق الصواريخ من غزة لم يتوقف في الأيام الأخيرة على نحوٍ متقطع، فلربما كان هدفه، إرساء معادلة جديدة في المنطقة، قوامها اتحاد الساحتين اللبنانية والفلسطينية في أي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل، وضم سوريا تلقائياً، فيزداد الضغط الصاروخي على إسرائيل، وتتعاظم مخاطر المواجهة، ويكبر العبء على أي حكومة إسرائيلية، مما يسرّع تنفيذ استراتيجية الصواريخ والمسيرات الطائرة التي تقوّض تدريجياً قوة الردع الإسرائيلي.
خلاصة هذه المواجهات، وضع إطار زمني ومكاني محدد لا تتعداه، ما يسمح بوقف إطلاق النار، وعدم المضي إلى آخر الشوط
ما علاقة الاتفاق الإيراني السعودي؟
محاولة استدراج إسرائيل لمواجهة مزدوجة، قد يكون لها وجه آخر لا يقل خطورة. فعندما أُعلن عن الاتفاق الإيراني السعودي في 10 آذار/مارس الماضي، سرت تكهنات عن مدى هذا الاتفاق، وجوهره، وهل يمتد من اليمن إلى الساحات الأخرى، مثل سوريا ولبنان، (وفلسطين استطراداً)؟ في الأثناء، كان لأمين عام الحزب موقف لافت من هذا الاتفاق وآثاره المحتملة، حين أعلن أنه “عندنا ثقة أن هذا لن يكون على حساب شعوب المنطقة بل لمصلحة شعوب المنطقة، ويساعد في لبنان واليمن وسوريا والمنطقة، وثقتنا مطلقة بأن هذا لن يكون على حسابنا ولا على حساب الشعب اليمني ولا على حساب سوريا ولا على حساب المقاومة”. وأضاف: “الطرف الأول (السعودي) لا نريد فتح معه مشكلة لأنهم يريدون أن يتصالحوا، أما الطرف الثاني (الإيراني)، فنحن واثقون أنه لا يُخلع صاحبه”، في إشارة خفية إلى ما جرى في التحكيم بين علي ومعاوية أثناء معركة صفين عام 38ه/659م، فمندوب علي، أبو موسى الأشعري خلع صاحبه علياً، فقام مندوب معاوية، عمرو بن العاص فأثبت صاحبه. وهي رواية مختلف عليها، في التفاصيل لا في المبدأ. والمعنى واضح لمن يدرك المغزى، أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تقوم مقام الشعوب ولا تتخذ قرارات بالنيابة عنها”. بل ما هو أكثر من ذلك، استناداً إلى ما جرى في التحكيم. وأوضح نصر الله أن العلاقة بين إيران وحزب الله، عمرها أربعون عاماً “لكن هناك من لا يستوعب أن إيران تدعم المقاومة في لبنان وفلسطين، ولا تتدخل في قراراتهم”. هذا التصريح بالغ الأهمية، وربما يلقي الضوء على العملية الحمساوية في جنوب لبنان، التي يكتنفها الغموض.
إن الاتفاق الإيراني السعودي، هو إطار تفاوضي، ومسار متطوّر لإطفاء بؤر الصراع، وليست اتفاقاً تفصيلياً لكل أزمة على حدة. فالهدف إذاً من افتتاج مواجهة جديدة، وبتغيير قواعد اللعبة، هو إثبات استقلالية حركات المقاومة عن القرار المركزي في إيران. واتفاق طهران مع الرياض لا ينسحب عليها، بدليل أنه للمرة الأولى منذ 2006 يسمح الحزب لحركة حماس بانتهاك القرار الدولي رقم 1701، وهي خطوة غير مسبوقة، تناقض كل التفاهمات السابقة، وتنحو إلى تبديل استراتيجية المواجهة مع إسرائيل؛ فبدلاً من القتال في كل ساحة على حدة، تندمج فجأة، فترفع مستوى المواجهة إلى أقصى حدّ. والأهم أن لبنان سيعود ساحة بعدما سقط أو يكاد يسقط كدولة.
إقرأ أيضاً: مفاعيل “بكين” تُقصف من لبنان..
حماس تدعم نتنياهو
أخيراً، كيف تُفتح معركة مع إسرائيل في ذروة الانقسام الداخلي، بين نتنياهو والمعارضة، أليس هذا تخادماً بين حماس وحكومة نتنياهو؟ طبيعة أي صراع أن يختار كل طرف عدوه المفضل. ونتنياهو بعلاقاته السيئة مع إدارة بايدن هو العدو الأفضل، ومن المفيد دعمه بطريقة غير مباشرة، في حين أي بديل منه مقرب من واشنطن، سيكون غير مفيد للاستراتجية المعتمدة. الخطر الخارجي قد يوحد الصفوف في الداخل، فيبتعد الخطر عن نتنياهو إلى وقت لاحق.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@