بات حرق المصحف موضة. كما أصبحت الردود من قبيل التكرار. فكلّما أُحرق مصحف، أو نُشر رسم مسيء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، انتشرت ردود عنيفة، وصدرت مواقف رسمية بالإدانة، ومواقف هي نفسها من جهات أهليّة تدعو إلى مقاطعة بضائع الدول التي وقعت فيها الحادثة. وتدور الدائرة كلّ بضع سنين، على نحوٍ يصيب المرء بالملل، من تفاهة الفاعلين وسعيهم إلى الشهرة، ومن نمطية الردود في العالم الإسلامي، التي لا توصل إلى مكان. فلا أفعال الكراهية تُنقص شيئاً من عظمة الدين ولا مكانة المسلمين في العالم، ولا ردود المؤمنين تردع الأفراد عن الارتكاب ولا كذلك الدول الغربية الليبرالية عن السماح بمثل هذه الأفعال، المسيئة أوّلاً لمصالحها الاستراتيجية مع العالم الإسلامي.
حرق المصحف كموقف
في عام 2010، أثار القسّ الأميركي تيري جونز قلق الأجهزة الأمنيّة الأميركية، وهو أسقف في كنيسة صغيرة في فلوريدا، حين أراد حرق المصحف في ذكرى هجمات 11 أيلول قبل تسع سنوات. كان الخوف آنذاك من إثارة غضب الجهاديين فيتشجّعوا أكثر على تكرار الهجوم على الولايات المتحدة. ثمّ أُحرق المصحف في العام التالي، احتجاجاً على اعتقال السلطات الإيرانية رجل الدين المسيحي يوسف نادرخاني. وفي 11 أيلول 2013 قبضت السلطات الأميركية على القسّ تيري جونز، بعد وصوله إلى منتزه في ولاية فلوريدا، وبحوزته قرابة ثلاثة آلاف نسخة من القرآن كان يخطّط لإحراقها.
كانت الشرطة قد منعت موميكا نفسه ومنظمة سياسية من حرق القرآن أمام السفارتين التركية والعراقية باستوكهولم في شهر شباط الماضي
لكنّ الحادثة الأكثر استجراراً للردود العنيفة في العالم، كانت ما نشرته صحيفة “يولاندس بوستن” الدانمركية في 30 أيلول 2005، لـ 12 صورة كاريكاتورية للرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم، مع مقال تحت عنوان “وجه محمّد”. ورفضت السلطات الدانمركية طلب الجالية الإسلامية سحب الصور تحت ذريعة حرّية التعبير، فانتشرت أعمال العنف في أنحاء العالم، وهوجمت سفارات وقنصليات في بعض البلدان، ومنها لبنان. وبالمقابل، أعادت صحف نرويجية وألمانية وفرنسية وصحف أخرى، نشر الرسوم تضامناً مع الصحيفة الدانمركية. وقامت الصحيفة الأسبوعية الفرنسية الساخرة “شارلي إيبدو” بنشر الرسوم المسيئة للنبي، فأصبحت هدفاً لهجوم مسلّح في 7 كانون الأول/ ديسمبر عام 2015، فقُتل أكثر من 12 شخصاً، من بينهم بعض أشهر رسّامي الكاريكاتور في فرنسا. وبعد خمس سنوات، أعادت الصحيفة نفسها نشر الرسوم نفسها مع الرسوم المسيئة المنشورة قبل ذلك في الصحيفة الدانمركية، وذلك لمناسبة محاكمة المتواطئين في حادثة الهجوم المسلّح على مقرّ “شارلي إيبدو”، والهدف المعلن هو الدفاع عن حقّ التعبير، وهو ما بات ذريعة الاعتداء على مشاعر الآخرين ومعتقداتهم. تحتكر السخرية جزءاً أساسياً من حقّ التعبير، الذي ينبغي أن يكون أكثر رحابة، وأكثر رقيّاً، بمعنى حقّ الناس في الإدلاء بآرائهم الفكرية والدينية من دون عواقب أو عقوبات، وهذه هي الفلسفة الحقيقية لحرّية التعبير.
حوادث متكرّرة في السويد
أمّا حادثة حرق المصحف أخيراً في السويد التي تضمّ أكثر من 600 ألف مسلم (6% من السكّان)، فليست الأولى من نوعها. ففي شهر آب من عام 2020، قام الدانمركي السويدي راسموس بالودان زعيم حزب “سترام كوكس” أو “الخطّ الصلب”، وهو حزب يمينيّ متطرّف، مناهض للمهاجرين، وشعبيّته ضئيلة، بحرق المصحف في مالمو جنوب السويد. وأُلقي القبض عليه مجدّداً في 11 تشرين الثاني من العام نفسه، وهو على وشك حرق مصاحف في أماكن عامّة بفرنسا. وأقدم في نيسان العام الماضي، على حرق نسخ من المصحف مع عدد من أتباعه في السويد، بهدف زيادة حظوظه قبل أشهر من الانتخابات النيابية في بلاده، وكرّر الفعل نفسه، أكثر من مرّة، في تواريخ وأمكنة مختلفة من السويد. وكان أكثرها جدلاً، وهو إقدامه على حرق المصحف أمام السفارة التركية في كانون الثاني الماضي، قد أثار تظاهرات احتجاجية دامت أسابيع، وتزامنت مع دعوات إلى مقاطعة البضائع السويدية، وأسهمت الحادثة في تعقيد المفاوضات مع تركيا للسماح بدخول السويد حلف الناتو.
حادثة حرق المصحف أخيراً في السويد التي تضمّ أكثر من 600 ألف مسلم (6% من السكّان)، فليست الأولى من نوعها
من المعلوم اختراق روسيا لعدد من الأحزاب القومية اليمينية في أوروبا، وهي متضرّرة جيوبوليتيكياً من انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي، كأثر من آثار غزو أوكرانيا العام الماضي. وربّما لم يكن عفوياً احتضان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمصحف الذي أهداه إيّاه إمام “مسجد الجمعة” في مدينة دربند الداغستانية، وهو أحد أقدم المساجد في روسيا، في أوّل يوم من أيام عيد الأضحى، بينما كانت السلطات السويدية تسمح لعراقي لاجئ لديها بحرق المصحف والازدراء به، تحت ذرائع قانونية واهية. وأكّد بوتين أنّ عدم احترام القرآن هو جريمة في روسيا خلافاً لبعض الدول الأخرى. وأضاف: “شعبنا متعدّد الجنسيات والطوائف لكنّه متّحد”. وفي اليوم التالي، أصدر مجلس الدوما بياناً أدان فيه حرق المصحف في السويد.
أمّا حين طلب العراقي الآشوري سلوان موميكا من الشرطة السويدية الإذن بالتظاهر أمام المسجد فقال إنّه يريد التعبير عن رأيه في القرآن. ولدى تقديمه الحجّة والذريعة لفعله هذا، قال لوكالة الأنباء السويدية TT: “هذه هي الديمقراطية. إنّه لأمر خطير إن كانوا (المسلمين) هم من يقرّرون لنا ما الذي لا يمكنه فعله”. هو لم يكتفِ بحرق صفحات من المصحف. بل ارتكب أفعالاً متنوّعة لإظهار كراهيته للمسلمين، وازدرائه بكتابهم المقدّس، في مكان وزمان مخصوصين لهما من الرمزية والاعتبار، أمام مسجد استوكهولم وفي أوّل أيام عيد الأضحى. أحرق صفحات منه، وأهانه، ورفسه أخيراً ككرة. كان الغرض الواضح من فعل موميكا هو التعبير عن كراهيته لفئة محدّدة من المواطنين السويديّين، ويتضمّن قوله وفعله خطاب كراهية لا لبس فيه، فضلاً عن الآثار الأمنيّة والدبلوماسية الخطيرة المترتّبة على هذا الاستفزاز الذي نال مشاعر مئات ملايين الأفراد في أنحاء العالم، ومع ذلك قرّرت المحكمة الإدارية بعد جدل دام أسبوعين منح هذا العراقي المنشقّ حقّه الدستوري المقدّس بالتعبير عن رأيه، بالشكل الذي يرتئيه ويرغب فيه، وأن يقوم بذلك كلّه تحت حماية الشرطة.
وكانت الشرطة قد منعت موميكا نفسه ومنظمة سياسية من حرق القرآن أمام السفارتين التركية والعراقية باستوكهولم في شهر شباط الماضي. لكنّ المحكمة الإدارية أصدرت قراراً في منتصف الشهر الحالي، مفاده أنّ من الخطأ حظر ذلك، معتبرة أنّ المخاوف الأمنيّة الواردة في قرار الشرطة، غير كافية لمنع تلك الأفعال. وكان جاء في تبرير الشرطة أنّ هذه الأفعال تجعل من السويد هدفاً مفضّلاً للهجمات الانتقامية.
إقرأ أيضاً: الهند: 311 مليون مسلم.. على مشارف “إبادة جماعية”
يقول موميكا في تصريحات صحافية إنّ القرآن خطير، ويجب حظره. لكنّ فعله لم يحقّق أيّاً من أمانيه. فهل الأفضل تجاهل أفعال هؤلاء المتطرّفين والاكتفاء بالإدانات التقليدية؟ اللامبالاة تشجّع على التكرار، كما أنّ الردود العشوائية ترسّخ الصورة النمطية عن الإسلام، وهو ما يسعى إليه المرتكبون لأفعال الكراهية. لا بدّ من كسر الدائرة المقفلة بمبادرات مدروسة من مرجعيات العالم الإسلامي.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@