لغز الانتعاش والضائقة: ماذا بقي من الأزمة؟

مدة القراءة 5 د

يطرح الانتعاش الاقتصادي الظاهر خلال الصيف إشكالاً في فهم ما بقي من الأزمة التي انفجرت عام 2019، والانفصام ما بين حالة الرخاء في مكانٍ ما واستمرار المعاناة لدى فئات أخرى.
في مكانٍ ما، جهاز حكومي مشلول وعاجز حتى عن إجراء امتحانات رسمية، وإضرابات لا تنتهي، وشكوى من تضخّم الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للعاملين بأجر، وفي مكان آخر، بدأ الكثير من قطاعات الأعمال يعود إلى طبيعته، بل إنّ بعض كبار رجال أعمال يقولون في مجالس خاصّة إنّ أرباحهم المعدّلة بالدولار تجاوزت ما كانت عليه في 2019 وما قبله.

صعوبة القياس
التفسير الشائع أنّ الفنادق والمطاعم وأماكن السهر منتعشة بإنفاق المغتربين وشريحة صغيرة من الميسورين، وأنّها لا تعبّر عن حال الاقتصاد. لكنّ هذا التفسير يبقى قاصراً عن فهم مكوّنات الناتج الاقتصادي المحلّي ودينامية نموّه. ما هو أدقّ من المقولة السالفة أنّ الشرائح التي تعاني ليست هي بالضرورة المعبِّر الحقيقي عن حال الاقتصاد. وإذا كان هناك من يعانون فالأرجح أنّهم ضحايا لعملية إعادة الهيكلة القسرية للاقتصاد، أكثر من كونهم التعبير الكامل عن حال الاقتصاد.
ثمّة صعوبة في قياس الحال الراهنة بما كان الحال عليه قبل الأزمة، بسبب اهتراء المنظومة الإحصائية وسقوط مصداقية البيانات الرسمية، لدرجة أنّ صندوق النقد الدولي لم يعُد يجد طريقة معقولة لقياس حجم الناتج المحلّي الإجمالي وتقدير معدّل النموّ والمؤشّرات الكلّية الأخرى. وهذه حال لم تصل إليها أكثر الدول تخلّفاً على سطح الكوكب. إدارة الإحصاء المركزي مثلاً، لم تصدر أيّة بيانات للناتج المحلّي الإجمالي بعد 2020. والحال كذلك، فإنّ من الصعب إيجاد أرقام يمكن الركون إليها لمقارنة الوضع الحالي بالحال قبل الأزمة.
إلا أنّ التقويم الواقعي يقتضي الإقرار بأنّ أجزاء من الاقتصاد عادت إلى ما قبل 17 تشرين الأول 2019، بل إنّ بعضها في حال انتعاش ونموّ، فيما ستبقى قطاعات أخرى في المعاناة لسنين. والتقويم الأخير من صندوق النقد الدولي يؤكّد أنّ الاقتصاد استقرّ نوعاً ما في 2022، بعدما تقلّص بنحو 40% منذ بداية أزمة 2019.

ثمّة صعوبة في قياس الحال الراهنة بما كان الحال عليه قبل الأزمة، بسبب اهتراء المنظومة الإحصائية وسقوط مصداقية البيانات الرسمية

يُقاس حجم الناتج المحلّي الإجمالي بمجموع ما يلي: (1) الإنفاق الحكومي، و(2) الاستثمار، و(3) الاستهلاك، و(4) صافي الصادرات/ الواردات. كان دور الدولة في الاقتصاد هائلاً، إذ تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنّ الإنفاق الحكومي كان يشكّل وحده 31% من الناتج المحلّي الإجمالي في 2019. فيما كان الاستثمار غير الحكومي يشكّل نحو 20% من حجم الاقتصاد، ولم تكن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تشكّل أكثر من 3%. أضف إلى ذلك أنّ موظّفي الدولة من مدنيين وعسكريين، كانوا يشكّلون قاعدة ضخمة للاستهلاك، برواتبهم التي كانت تزيد على ستّة مليارات دولار، أي أكثر من 10% من حجم الاقتصاد في ذلك الحين.
أتت الضربة الكبرى للاقتصاد من انهيار الإنفاق الحكومي بفعل انهيار العملة وعجز الدولة عن توفير مصادر للتمويل الخارجي، فانهارت القدرة الشرائية لدى العسكريين وموظّفي القطاع العامّ، وتراجع معدّل استهلاكهم.

الشمال: صفر إعمار
ما جرى في الأشهر الماضية هو نموّ على قواعد جديدة ترتكز على تقليص الاعتماد على الحكومة في الاستثمار والاستهلاك. يمكن الالتفات إلى بعض البيانات في هذا الإطار، ومنها أنّ مساحات البناء المرخّص بها لدى نقابتَي المهندسين في بيروت والشمال تجاوزت في كلّ من عامَيْ 2021 و2022 مستويات 2019 بنحو 57%. يعود جزء من هذا النموّ، بلا شكّ، إلى مسارعة كثيرين إلى استصدار رُخص البناء بتكاليف زهيدة استباقاً لرفع الرسوم، لكن لا يمكن إغفال وجود حركة بناء قويّة. ويبدو ذلك من رقم لافت، وهو ارتفاع كمّيات الإسمنت المسلَّمة في كانون الثاني الماضي بنسبة 174% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.
لا يمكن إغفال دلالة المناطق التي تتركّز فيها تراخيص البناء. إذ تتركّز 85% منها تقريباً في جبل لبنان والجنوب والنبطية والبقاع، مقابل 0.77% فقط في منطقة الشمال الأولى. فهل لذلك علاقة بالخريطة الجغرافية للتأثّر بالأزمة المصرفيّة؟ يجدر النظر إلى عاملَين مؤثّرَين في تلك الخريطة: حركة خروج الأموال من القطاع المصرفي إلى جمعية القرض الحسن بين عامَي 2015 و2019، وسداد الشركات الكبرى لقروضها المصرفية بالليرة أو بتجارة الشيكات.
بالإضافة إلى حركة الاستثمار، تستعيد القطاعات السياحية والخدمية نشاطها، ويتّضح ذلك من زيادة حركة المطار بنحو 27% في الثلث الأوّل من العام الحالي، وزيادة حركة الطائرات بأكثر من 20%.

حتى الآن، كانت الدولة أكبر المستفيدين من الأزمة، إذ إنّها شطبت جبل الديون المتراكم عليها بالليرة وارتاحت من خدمة الديون بالدولار

يمكن الافتراض إذاً أنّ الثروة التي انتقلت من المودعين إلى فئات أخرى من الشركات ورجال الأعمال بدأت تأخذ طريقها إلى الاقتصاد مجدّداً، من خلال الاستثمار أو الاستهلاك. لكنّ السؤال: هل يمكن لهذا المسار أن يستمرّ فيما الدولة على هذه الحال؟سيؤدّي شلل جهاز الدولة إلى إعاقة تطبيع الوضع الاقتصادي عاجلاً أم آجلاً، ليس فقط بسبب عجز الدولة عن توفير الخدمات الأساسية فحسب، بل لأنّ زيادة رواتب موظّفي القطاع العامّ من دون عودة الدولة إلى أسواق رأس المال للاستدانة، ستقود إلى موجة جديدة من التضخّم وانهيار الليرة، خصوصاً أنّ تلك الزيادات تترافق مع رفع الرسوم الجمركية، التي ستؤدّي إلى ضغوط تضخّمية مضافة.

إقرأ أيضاً: الفراغ الرئاسي المتعمّد: المزيد من التدهور الاقتصادي!

حتى الآن، كانت الدولة أكبر المستفيدين من الأزمة، إذ إنّها شطبت جبل الديون المتراكم عليها بالليرة وارتاحت من خدمة الديون بالدولار. لكنّ أمامها مساراً طويلاً لتعود دولة طبيعية قادرة على القيام بوظائفها. وفي الطريق إلى هناك لا بدّ أن تتغيّر أمور كثيرة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…