حسابات أنقرة السودانيّة!

مدة القراءة 8 د

أقلقت الاشتباكات العنيفة في السودان تركيا مثل غيرها من الدول. إذا ما صحّت التوقّعات فمن المحتمل عند نشر هذه المادّة أن يكون وفد دبلوماسي استخباري تركي رفيع يلتقي بطرفَي الصراع داخل السودان أو خارجها ويوجّه لهما دعوة إلى الحوار والتفاوض في أنقرة، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار والدخول في تفاهمات تُنهي أسباب النزاع والتوتّر.

هل من وساطة تركية؟
لا مؤشّرات حقيقية إلى حجم الوساطة التركية التي أشار إليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ووزير خارجيّته مولود شاووش أوغلو، ولم يتمّ تأكيدها بعد في الخرطوم. ومن الصعب أيضاً التكهّن بفرص نجاحها أمام وجود أكثر من لاعب إقليمي دخل على خط الأزمة عارضاً الوساطة. لكنّ القيادات التركية مثل العديد من العواصم تريد أن تساهم في جهود التهدئة، بسبب مصالح اقتصادية واستراتيجية بنتها مع الخرطوم في العقد الأخير، وللحؤول دون تمدّد وانتشار النزاع وتهديده منظومة العلاقات التي بنتها مع دول القارّة السمراء في العقدين الأخيرين.
أعلن الرئيس التركي إردوغان، في مؤتمر صحافي مشترك مع الفريق أول عبد الفتاح البرهان خلال استقباله له في العاصمة التركية أنقرة في آب 2021، أنّ بلاده عازمة على الوقوف بجانب الشعب السوداني الشقيق وحكومته من أجل تجاوز هذه المرحلة الصعبة. وردّ البرهان: “لقد وقفت تركيا دائماً إلى جانب السودان. ووقفت بجانبنا خاصة خلال عملية الانتقال والتغيير التي يمرّ بها السودان في الوقت الحالي”. قد تكون هذه المواقف بين الأسباب الإضافية التي تمنح أنقرة فرصة الدخول على خطّ الوساطة بعد اشتعال الجبهات بين قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع تحت إشراف محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ما يُقلق أنقرة في السودان اليوم هو غياب دور اللاعب السياسي السوداني على مستوى القيادات والأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني عن مسار الحلحلة والتسويات

يحدّد مسار سياسة تركيا السودانية مصير مصالحها في السودان. لكن إلى جانب ذلك هناك شكل استراتيجية التحرّك التركي في إفريقيا وعلاقات أنقرة مع دول الجوار السوداني وطريقة تعاملها مع الدول العربية الفاعلة هناك. تتعلّق نظرة أنقرة إلى ما يجري في السودان باستراتيجيتها الإفريقية أوّلاً، والعربية ثانياً، والإقليمية ثالثاً.
ليس سهلاً على البعض نسيان الصور التي التقطها إردوغان كأوّل رئيس تركي يزور السودان في أواخر عام 2017، وهو في طريقه إلى شبه جزيرة “سواكن” للبحث عن فرص استثمار وتعاون ذي طابع استراتيجي بين البلدين. ولا يمكن تجاهل حجم ردود الفعل المحلية والإقليمية التي واكبت تصريحات وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو وهو يتحدّث عن توقيع اتفاقيات استراتيجيّة البعد تصل إلى البحر الأحمر “لأنّ أنقرة معنيّة بأمن المنطقة هناك أيضاً”. ولا أحد يعرف إذا ما كان بين أسباب إزاحة عمر البشير عن السلطة قبل 4 سنوات مواقفه وسياساته الانفتاحية على تركيا وغيرها من العواصم، التي أقلقت العديد من دول المنطقة وأغضبتها. لكنّ المؤكّد هو أنّ أنقرة لا تريد التفريط بما شيّدته بصعوبة من علاقات مع القيادات السودانية الجديدة في العامين الأخيرين، والدليل هو مسارعة وزير الخارجية التركي إلى الإعلان أنّ تركيا ليست طرفاً في الصراع الدائر هناك، وأنّها تريد الدخول على خطّ الوساطة.

المصالح التركية في أفريقيا
تسعى أنقرة إلى حماية مصالحها في إفريقيا. هناك التجارة والزراعة والطاقة وخطوط النقل البحري. وتمكّنت تركيا من التمدّد نحو العمق السوداني لمسافة 4 آلاف كلم بعيداً عن حدودها. كانت تفعل ذلك عبر المنافسة وتضارب المصالح مع العديد من العواصم. لكنّ الأمور تختلف اليوم، ولذلك لا تريد أن تعرّض للخطر سياستها السودانية المرتبطة بالتحوّلات الحاصلة في استراتيجية التموضع الإفريقي والعربي الجديدة. ولذلك أيضاً تريد أن تعرض وساطتها بالتنسيق مع العواصم الفاعلة هناك. بصورة أوضح نجحت أنقرة في التواصل مع القيادة السودانية الجديدة وتحسين علاقاتها مع عواصم كثيرة تضاربت مصالحها معها في السودان. من أجل ذلك لن تغامر بتعريض ما شيّدته في العامين الأخيرين للخطر من خلال الانحياز إلى طرف على حساب طرف آخر، وستعمل على إنجاز أيّ تحرّك باتجاه المشهد السوداني انطلاقاً من علاقاتها الجديدة مع الرياض وأبو ظبي والقاهرة.
ما بين أيدينا حتى الآن هو ما أعلنه وزير الخارجية التركي شاووش أوغلو من أنّ مساعده سيصل إلى السودان الأسبوع المقبل، في زيارة تهدف إلى “عرض وساطة تركيّة”، والاتصالات المكثّفة التي تُجريها أنقرة مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي حذّر من احتمال انتقال أعمال العنف في السودان إلى كامل المنطقة أو أبعد منها. لكنّ المؤكّد أنّ أنقرة تجهد في سياستها السودانية الجديدة من أجل تحقيق أمور عديدة:
– حماية مصالحها الاقتصادية والاستثمارية الطويلة المدى بعد الكثير من الاتفاقيات الموقّعة بين البلدين في السنوات الخمس الأخيرة.
– تأكيد التزامها ودعمها لـ “الاتفاق الإطاري” الذي وقّعه المكوّن العسكري السوداني مع القوى المدنية في إطار إيجاد حلّ للأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ عام 2019.
– الإعلان أنّ السودان يشكّل عمقاً استراتيجيّاً لتركيا في القرن الإفريقي، وتحديداً مع امتلاك أنقرة قاعدةً عسكريةً في الصومال، ووصولها إلى جزيرة “سواكن” السودانية في البحر الأحمر.
– على الرغم من أرقام التبادل التجاري بين تركيا والسودان التي لا تتجاوز مليار دولار في العام، وقّعتا في الأعوام الأخيرة في إطار استراتيجية الانفتاح على القارّة السمراء عقود مشروعات واستثمارات تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، بينها اتفاقية عام 2014 التي يتمّ بموجبها تأجير تركيا أراضي زراعية في السودان بمساحة 780 ألف هكتار مدّة 99 سنة، واتفاقية موقّعة بين الحكومة السودانية وشركة “صوما” التركيّة من أجل بناء مطار الخرطوم بعدما فازت الشركة بمناقصة المشروع الذي تصل قيمته إلى 1.1 مليار دولار.
– الأهمّ بين كلّ هذه العقود والاتفاقيات كان في جزيرة “سواكن” الاستراتيجية بعد زيارة الرئيس التركي للخرطوم قبل 6 سنوات، التي تمّ التوقيع خلالها على اتفاقية إعادة إعمار الجزيرة والاستثمار فيها في إطار عقود طويلة الأمد.

غياب القيادات السودانية
بين ما يُقلق أنقرة في السودان اليوم هو غياب دور اللاعب السياسي السوداني على مستوى القيادات والأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني عن مسار الحلحلة والتسويات، واحتمال انهيار أحجار الدومينو هناك ونقل المعارك إلى جبهات جديدة في المدن السودانية، خصوصاً إذا ما تمسّك طرفا النزاع برفض الدخول في مفاوضات حقيقية من أجل وقف المعارك. لذلك نرى في تركيا من يركّز على المسار الجديد في العلاقات التركية المصرية الذي خلط أوراق العلاقات الثنائية والإقليمية بين البلدين. ومن يتوقّف عند تحوّل الساحة السودانية، التي كانت مسرحاً للتنافس بينهما قبل سنوات وكان لها ارتداداتها السلبية على علاقاتهما مع الدول الإفريقية والعربية المطلّة على البحر الأحمر والشريكة في مياه النيل والمنفتحة على شرق المتوسط، إلى فرصة تقارب وتنسيق استراتيجي تماماً كما هو الهدف اليوم في التعامل مع الملف الليبي. ولذلك جاءت الرؤية التركية حيال انفجار الأوضاع في الخرطوم لتلتقي مع الكثير من نقاط الرؤية المصرية عند ضرورة الوقف الفوري والدائم والشامل لإطلاق النار والذهاب نحو التفاوض السياسي الحقيقي والحؤول دون حصول تدخّلات خارجية في الأزمة قد تصبّ الزيت فوق نار التوتّر لتأجيجه وتعميقه وإطالة عمره.

إقرأ أيضاً: غاز البحر الأسود التركي.. وانتخابات تركيا

يهمّ أنقرة أخذ ما تقوله وتريده القاهرة بعين الاعتبار كي لا تهدر خطوات التقارب الأخير بين البلدين التي تحقّقت بصعوبة. ولكي لا تفرّط بفرص الدخول لاحقاً على خطّ الوساطة بين مصر وإثيوبيا في ملف أزمة النيل في حال طُلب إليها ذلك. يهمّها أيضاً التعاون والتنسيق مع الرياض وأبو ظبي في الملف السوداني بسبب علاقات العاصمتين القويّة مع طرفَي النزاع. ولا تريد أيضاً إغضاب اللاعب الروسي أو الصيني الذي زاد من تمركزه الاقتصادي والعسكري هناك.
صحيح أنّ تركيا كانت بين الدول التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة التي فتحت أبوابها أمام الرئيس المخلوع عمر البشير، لكنّها كانت السبّاقة أيضاً في التواصل مع القيادة العسكرية الجديدة بقيادة البرهان ودقلو من خلال زيارات متبادلة مكثّفة على أكثر من مستوى عسكري وسياسي وتجاري لحماية مشاريع الاستثمار والعقود الطويلة المدى التي حصلت عليها في السودان.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…