هكذا يعود لاجئو سوريا إلى بلادهم

مدة القراءة 7 د

يسهل في لبنان استنتاج وجود تذمّر اجتماعي عام من معضلة اللجوء السوري. يسهل إقناع العامّة بأنّ أزماتهم في الأمن والسياسة والاقتصاد سببها وجود هذه الأعداد من المواطنين السوريين في بلدهم (850 ألفاً مسجّلون وتقديرات بوجود مليونين). ويسهل على المستثمرين السياسيين في هذا الملف بيع خطبهم لدى بيئات مجتمعية وهنت مناعتها وباتت طيّعة لرياح حملات تدعو إلى التخلّص من هذا العبء بالذات ترياقاً وحيداً سحرياً لانتشال البلد من غرقه.

التوقيت السياسي للحملة على اللاجئين
ليس اللبنانيون سذّجاً ويعرفون أنّ للحملات الحالية ضدّ اللاجئين السوريين توقيتاً سياسياً، وأنّ لكلّ توقيت أجندات لا يدركونها. ومع ذلك لا يهمّ. فالمعضلة حقيقية وتعويم الحديث عنها قد يكون ناجعاً، لا بل إنّ إثارة المسألة ضرورة لتحفيز أيّ جهود أو خطط إقليمية ودولية لإنهاء مأساة اللاجئين السوريين داخل كلّ دول اللجوء، لا سيما في تركيا والأردن ولبنان. ولئن تختلط الشكوى البريئة بالأجندات المبرمجة بالطائفية والممنهجة بالعنصرية الكامنة، فإنّ إثارة قضايا اللجوء في العالم تكون مصحوبة عادة بكلّ الآفات هذه، فما بالك حين تُثار في لبنان ذي البنيان المعقّد.
صوّت مجلس العموم البريطاني في 26 نيسان الماضي على قانون جديد يطيح بكلّ فلسفة اللجوء التي تتّبعها الدول الديمقراطية في العالم. بات محرّماً على اللاجئين بطرق غير شرعية التقاضي لدى محاكم البلاد للحصول على وضع شرعي لإقامتهم في البلد. سبقت هذا النصّ القانوني تدابير اتّخذتها حكومة لندن تقضي بنقل هؤلاء نحو رواندا، وهو ما أثار غضب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وسبقت الأمر أيضاً مواقف وتصريحات صدرت عن وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان وُصفت بالعنصرية وكره الأجانب.

ليس اللبنانيون سذّجاً ويعرفون أنّ للحملات الحالية ضدّ اللاجئين السوريين توقيتاً سياسياً، وأنّ لكلّ توقيت أجندات لا يدركونها

فاحت في تركيا منذ سنوات روائح من العنصرية الفجّة ضدّ اللاجئين السوريين. أصبح الملفّ مادّة سجال بين حزب العدالة والتنمية الحاكم ذي الخلفيّة الإسلامية وأحزاب المعارضة، وجلّها ينهل من أيديولوجيات قومية أو علمانية أو أتاتوركية. استخدم الحزب الحاكم قضية اللاجئين بما يتّسق مع سياسة أنقرة السورية إبّان مرحلة العداء مع دمشق، وذهب هذا الاستخدام إلى تجنيس آلاف من اللاجئين الذين باتوا كتلة وازنة تُضاف إلى البيئة المقترعة لصالح الرئيس رجب طيب إردوغان وحزبه.
في بريطانيا يستثمر حزب المحافظين في سياسات الحكومة حيال اللاجئين وما يصدر عن وزارة الداخلية وما يصوّت عليه البرلمان (وهي جميعاً مسيطر عليها من قبل الحزب) خدمة للانتخابات المحلية التي ستجري في 4 أيار الجاري. وفي تركيا تنهل الأحزاب من ملف اللاجئين حججاً انتخابية في إطار المنافسة الشرسة الضروس في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي بوشرت في الخارج وستجري في الداخل في 14 أيار الجاري. فحتى التحوّل الذي أجراه إردوغان وحزبه في علاقة أنقرة مع دمشق تمّ الترويج له داخلياً كعلاج لمسألة اللاجئين السوريين في تركيا.
في لبنان لا يمكن اعتبار أنّ دوافع إثارة مسألة اللاجئين السوريين هي دائماً عنصرية. لكنّ توقيت الأمر يصبح غير بريء عندما يتحوّل إلى حملة مركّزة. سبق تعويم الملف بجلافة عند أيّ تطوّر مفصلي، ولا سيما الانتخابات التشريعية التي جرت في أيار 2022. وعلى الرغم من أنّ القضية مثار نقاش لدى كلّ اللبنانيين، إلا أنّ السجال فيها لطالما كان بيرق التيار الوطني الحرّ بقيادة جبران باسيل في سياق الدفاع عن المسيحيين ومن بوّابة الدعوة إلى التطبيع مع النظام السوري ومن موقع الحلف مع حزب الله وتيار الممانعة الإقليمي الذي تقوده طهران. غير أنّ الاستحقاق الرئاسي فرض أن تدلي منابر مسيحية متعدّدة، وخصوصاً حزبَي الكتائب والقوات اللبنانية، بدلوها في ملف يجد لدى الجمهور المسيحي بشكل خاص شعبية وتقاطعاً وهمّاً هويّاتياً مشتركاً.

ملف اللاجئين بانتظار الحل الشامل
على الرغم من رواج شبهات في أنّ إثارة هذا الملف لا تبتعد عن سعي الثنائي الشيعي وبقيّة أحزاب تحالف 8 آذار إلى دعم ترشّح زعيم تيار المردة سليمان فرنجبة للرئاسة، فإنّ تدافع منافسي الرجل على النفخ في هذا الملفّ والمطالبة بإعادة اللاجئين إلى بلادهم يطرح أسئلة بشأن التخبّط والفوضى في فهم التوقيت ومرامي كلّ فريق من “الغمس” في هذا الصحن.
لا يفوت “الثنائي” وفرنجية نفسه التسويق بصبيانية وسطحية لمسألة العلاقة الشخصية التي تجمع آل فرنجية بآل الأسد منذ سليمان فرنجية الجدّ وتلك التي تجمع فرنجية المرشّح بالرئيس بشار الأسد. يبيع الجميع معادلة تقول إنّ فرنجية رئيساً بإمكانه إقناع الرئيس في دمشق بفتح باب سوريا أمام السوريين في لبنان كرمى لعين رئيسها الصديق، وهو أمر لا ينطبق على سوريّي تركيا والأردن والعالم. لكنّ في ما يقترحه فرنجية وحلفاؤه اعترافاً بأنّ أمر اللاجئين رهن مزاج دمشق وحدها ورهن ما يمكن أن يتطوّر في رؤية نظامها لسوريا والسوريين ومدى “رضاها” عن سلوك الحاكم في بيروت.

الواضح أن لا حلّ أبداً لمعضلة اللاجئين السوريين في لبنان من دون حلّ شامل للمسألة السورية برمّتها. وهذا أمر لا يقرّره فرنجية وحلفاؤه ولا تؤثّر فيه خطب ساسة لبنان بشأن اللاجئين. بدا من نظرية الأسد بشأن “المجتمع المتجانس” أنّ من خرج لن يعود وأنّ خروج هؤلاء السوريين كان ضرورة لقيام المجتمع السوري الجديد. وفق ذلك لا يمكن لودّ شخصيّ يراه فرنجية “تميّزاً” لرئاسته أن يذهب إلى “تشويه” ذلك التجانس الذي تراه دمشق نهائياً.
لكنّ شيئاً ما تحرّك في ملف سوريا. ازداد تواصل أنقرة وعواصم عربية مع دمشق. نشط حراك عربي استضافته السعودية في جدّة ناقش مسألة عودة سوريا إلى الجامعة العربية. أعادت دول عربية فتح سفاراتها في دمشق. وأعادت دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا التذكير بالفيتو الذي تضعه ضدّ أيّ تطبيع مع النظام السوري من دون العبور نحو تسوية سياسية وفق القرار الأممي 2245، وهي التسوية التي يتقرّر وفقها ضخّ التمويل لإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين.
بدّلت المقاربة السعودية جدول الأولويات في سوريا. قدّمت الإنساني على السياسي، بما يعني أنّها دفعت بملف إعادة اللاجئين وجعلته واجهة أساسية للقضايا التي على أساسها يجري تطبيع العلاقات مع دمشق. صحيح أنّ جدلاً عربياً ودولياً ما زال يطالب النظام بشروط سياسية، غير أنّ هناك من يأمل وضع سوريا على سكّة التسوية المنشودة في مرحلة ما وإن كانت مستحيلة هذه الأيام. 

إقرأ أيضاً: اللاجئون السوريّون: قرار العودة بيد النظام

بعض الحملة اللبنانية ضدّ لاجئي سوريا، ولا سيما من قبل أصدقاء دمشق، يستلهم أجواء الودّ العربي مع النظام السوري. صحيح أن لا مواقف سورية رسمية مرحّبة بعودة أهل سوريا إلى بلادهم، غير أنّ حملات لبنان في هذا الشأن قد تضغط لإقناع المال العربي بتمويل خطط لإعادة الإعمار تحت عنوان الضرورة لإعادة اللاجئين من دون مقابل سياسي تدفعه دمشق في ملف التسوية المطلوبة. وقد يكون في الضجيج اللبناني ما يمكن أن يرفع من حدّة قضية كبرى لدى الدول المعنيّة لا يمكن حلّها إلا بتسوية سورية محلّية إقليمية دولية. غير أنّ هذا الضجيج هو ضجيج وحسب، وهو غير جدّي، وتعرف العواصم الكبرى أنّه يأتي لحسابات محلّية صغيرة وبمواقيت بيتية لا تقرأ العالم، ولا يهمّ أصحابها أصلاً قراءة هذا العالم، وهم المنهمكون في دفن رؤوسهم في حفر ضيّقة لا قاع لها.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…