لا أظنّ أنّ أحداً يستطيع إضافة شيء جديد إلى ملفّ النازحين السوريين الذي يشتعل الآن دونما أيّ جهدٍ لإطفاء الحريق، بل هناك المزيد من الأُوار الذي يحصل تارةً بقصد قاصد، وطوراً بإثارة ساذجٍ أو حاقد.
عندما بدأت الحرب السورية عام 2011 كان في لبنان أكثر من نصف مليون من السوريين الذين يعملون ومن العمّال الزراعيين إلى بوّابي البنايات إلى أصحاب المحلات الصغيرة للفواكه والخضراوات. إنّما بدءاً بالعام 2012 وحتى الزلزال التركي / السوري (2023) تدفّق مئات الألوف ممّن طردتهم البراميل المتفجّرة أو التهجير القسري على طول الحدود السورية – اللبنانية فيما بين دمشق وحمص وفي مذابح حمص وحلب وإدلب ودير الزور.. وإلى مساعٍ من الأكراد للتقليل من أعداد العرب في المناطق التي سيطروا عليها.
هناك عشرات الألوف الذين لم يطردهم غير الجوع. وبالطبع ما أتوا في معظمهم إلى لبنان، بل إلى تركيا في كلّ مناطق شمال وشمال شرق سورية. أمّا في الجنوب فقد مضوا هاربين إلى الأردن. والبحث هنا ليس عن المذنب في التهجير فهو معروف، بل كيف تجمّع في لبنان خلال 5 سنوات زهاء مليون ونصف مليون. وهذا وقد تجمّع في الأردن وعلى الحدود حوالى ثمانمئة ألف، وحوالى 3 ملايين ونصف في تركيا، وهُجّر زهاء خمسة ملايين داخل سورية المنكوبة بحكّامها وبالميليشيات التي تجتاحها. كلّ هذه الأعداد، وبخاصّةٍ في لبنان، تقديرية. فرسمياً امتنع لبنان بعد عام 2016 عن استقبال المزيد. والجهات الدولية التي تقدّمت للمساعدة سجّلت أقلّ من مليون، وبينهم كثر من القدامى الذين ما هُجّروا لكنّهم سجّلوا أنفسهم للحصول على المساعدات وأفلحوا في ذلك. لقد ظلَّ التسرّب إلى لبنان مستمرّاً لعدم القدرة على ضبط الحدود، وهو الأمر الذي استطاعه الأتراك واستطاعه الأردنيون وإنْ بعد فوات الأوان.
الحرب في سورية خمدت وإن لم تنته. وفي الشكل يمكن للنازحين العودة، وثلثهم تقريباً يذهبون إلى سورية ويعودون، وهذا يعني أنّه ليست لديهم ملفّات أمنية تحول دون الذهاب
في البدايات تحمّلت المناطق السنّية العبء الأكبر. واستقبلت المناطق المسيحية مسيحيين أتوا من سورية. أمّا المناطق الشيعية فاستقبلت أعداداً معتبرة، لكنّ التحكم في الموجات ظلّ مقدوراً عليه من جانب الحزب، وإنْ ليس في كلّ الظروف والأوقات.
في النهاية هناك مليون ونيّف في مئات المخيّمات الكبيرة والصغيرة في المناطق السنّية بالبقاع والشمال، فضلاً عن المدن (السنّية) وحتى في إقليم الخروب.
حقائق ينبغي ذكرها
هناك بعض الحقائق التي ينبغي ذكرها. فعندما تدفّقت المساعدات في التعليم والصحّة أفاد منها الجميع. وجرى تقاسمها طائفياً كالعادة. فحتى في المناطق الإسلامية كانت مدارس الإرساليات هي التي تستقبل الأطفال. وهناك ثمانية آلاف معلِّم (مسيحي) جرى توظيفهم وإن كانوا لا يدرّسون أبناء اللاجئين، ومعروفة المشكلات الناجمة عن العهد بسبب إدارة المساعدات التعليمية لموظّفة عونية بوزارة التربية، ما استطاع الوزير مروان حمادة زحزحتها ولا مَنْ أتى بعده! وقد استفادت من الدعم الدولي للّاجئين كلّ بلديات لبنان تقريباً.
إنّما مع استمرار التدفّقات انتهى التذاكي والتقاسم، وتصاعدت الشكوى من جانب المسيحيين، ومن ضمنهم الرئيس عون صديق الرئيس الأسد والحزب. والشكوى المسيحية، وخصوصاً العونية، كان الدوليون يردّون عليها بالقول إنّ النازحين لا ينبغي أن يعودوا إلّا لمناطق آمنة. بينما ظلّ اللبنانيون، وبخاصّةٍ المسيحيون، مصرّين على أنّه يُراد توطين السوريين بلبنان، مثل الفلسطينيين. ومع توالي الانهيارات والإفقار في البلاد، فقدَ النازحون حتى العطف السنّي عليهم، وبخاصّةٍ بعد عام 2017، عندما صار واضحاً أنّ الثورة انتهت، وأنّ النظام الذي هجّر السنّة السوريين مباشرة أو بشكل غير مباشر لا يرغب في العودة لاستقبالهم، وإلّا فلماذا هجَّرهم؟ فحتى الرئيس بشار الأسد عبّر أكثر من مرّة عن رضاه عن “التوازن” الذي حصل نتيجة التهجير الفظيع. أمّا لماذا كان الرئيس عون واثقاً دائماً من التأثير على الأسد لهذه الجهة، فعلْم ذلك عند جبران باسيل، وربّما عند الحزب أيضاً. كان الجدال جارياً دائماً مع الدوليين باعتبارهم وحدهم المذنبين، كأنّهم هم الذين هجّروا وهم الذين يتآمرون من أجل التوطين. والعونيون يستطيعون دائماً استرداد الشعبية الطائفية المتصدّعة ليس من طريق السوريين المسلمين الأشرار فقط، بل ومن طريق التوقيت الرمضاني الشهير!
الحرب خمدت لكن لم تنتهِ
الظروف المستجدّة عديدة ومتنوّعة. فالحرب في سورية خمدت وإن لم تنته. وفي الشكل يمكن للنازحين العودة، وثلثهم تقريباً يذهبون إلى سورية ويعودون، وهذا يعني أنّه ليست لديهم ملفّات أمنية تحول دون الذهاب. لكنّ مناطقهم التي هُجّروا منها لا تصلح للسكن، ولا أعمال في سورية، بقدر ما ليست هناك أعمال في لبنان. والكلام عن أنّ السوريين مستمتعون بالإقامة والمساعدات كلام غير دقيق أيضاً، لأنّ نصف المقيمين منهم بلبنان الآن لا يتقاضون مساعدات. وسورية المنهكة والمقسَّمة والتي ما تزال تلفظ مواطنيها لا تملك قدرات، وهذا إن أرادت، وهي لا تريد.
ويُقبل معظم العرب على سورية لإعادتها للجامعة العربية، وقبل ذلك لإعادة العلاقات الدبلوماسية معها. وفي كلّ المحادثات السرّية والعلنية مع النظام يردُ ذكر مكافحة الإرهاب وإعادة النازحين. وأشهر تلك المحادثات هي تلك التي صدر عنها بيان علني وجرت بين وزير الخارجية السعودي ووزير الخارجية السوري في جدّة. وفي البيان ذكْر لتجارة المخدّرات ومكافحة الإرهاب وإعادة النازحين. ويردُّ الأميركيون والأوروبيون دائماً بأن لا عودة للعلاقات الطبيعية مع النظام إلّا بالدخول في الحلّ السياسي، وإنفاذ القرار رقم 2254. والمعروف أنّه منذ عام 2018 تخلّى الروس والإيرانيون والأتراك عن القرار الدولي، وساروا في آليّة أستانة. وقد اجتمعوا أخيراً في روسيا لمحاولة إقناع إردوغان وبشار بالتفاوض بدون شروط. ويبدو أنّ الأمر لم ينجح حتى الآن، والانتخابات التركية على الأبواب.
إقرأ أيضاً: سوريّ محتلّ ولبنانيّ عنصريّ؟!
كلّ المظاهر تدلّ على أنّ مسألة اللاجئين السوريين في لبنان تزداد تعقيداً. فلأوّل مرّةٍ يتظاهر اللبنانيون ضدّ اللجوء. وتنتشر التصريحات العنصرية في الأجواء والهواء الموبوء. ويهدّد الدوليون أعداء بشار بفرض عقوبات على كلّ من يهاجم السوريين في لبنان. وقد كانوا يقولون ذلك من قبل، لكنّ اللهجة تصاعدت بسبب الحرب الأوكرانية التي أبعدت أميركا وأوروبا كثيراً عن روسيا وعن إيران وعن النظام السوري.
ما الذي يحصل أو سيحصل إذن؟ لا شيء. اللبنانيون عاجزون، والنظام السوري ليس في وارد التفاوض. ومجمل المشهد كما جاء في النكتة الشهيرة: أنا وأمّي وأبي نريد البنت، وبقي أن توافق البنت وأمّها وأبوها!
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@