“مع امتلاء سماء الخرطوم بدخان المدافع، وإخلاء الدبلوماسيين الأميركيين من العاصمة السودانية، يبدو أنّ الانتقال المزعوم إلى الديمقراطية، ذلك المدعوم من الولايات المتحدة، انتهى إلى الفوضى والحرب الأهليّة في هذا البلد”.
يعود سبب ذلك في رأي المحلّل السياسي في صحيفة “وول ستريت جورنال” والتر راسل ميد إلى تكرار أميركا سيناريوهات جهودها لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
السودان ليس استثناء
لم يكن الانهيار السوداني مفاجئاً بحسب ميد: “إذا نظرنا إليه من زاوية معدّل نجاح الجهود الأميركية في هذه المناطق على مدى السنوات الـ15 الماضية”، معتبراً أنّ “فرصة أيّ أعمى لبناء غوّاصة نووية أفضل من قدرة الإدارة الأميركية على تنظيم انتقال ديمقراطي في الخرطوم”.
يعود سبب ذلك في رأي المحلّل السياسي في صحيفة “وول ستريت جورنال” والتر راسل ميد إلى تكرار أميركا سيناريوهات جهودها لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
منذ الربيع العربي فشلت الجهود الأميركية في تعزيز الديمقراطية في مصر وليبيا وتونس والجزائر: “لماذا يعتقد أيّ شخص في وزارة الخارجية الأميركية أنّ السودان كان مرشّحاً للديمقراطية أكثر من هذه البلدان؟! ولماذا يكون عام 2023 مناسباً لمبادرة سياسية أميركية في بلد شديد التعقيد، فيما قوّة الولايات المتحدة في تدهور على نطاق واسع وحادّ؟”.
انطلاقاً من كونه باحثاً في قضايا الاستراتيجية والحكم في معهد هدسون، يجيب: “تربة السودان السياسية والاجتماعية الصعبة والقاسية لا تسمح بتحقيق الديمقراطية. فمنذ استقلاله سنة 1956، شهد السودان:
– 17 محاولة انقلاب (ستّ منها ناجحة).
– حربين أهليّتين.
– صراعاً وإبادة جماعية في دارفور.
وفي موجة العنف الأخيرة الراهنة تشارك قوّتان أساسيّتان:
– الأولى، الجيش النظامي الذي دعم ديكتاتورية عمر البشير مدّة 30 سنة، وتمتّع ضبّاطه بسلطة اقتصادية وسياسية راسخة لا يرغبون في التخلّي عنها.
– الثانية، قوّة منافِسة رئيسية للجيش على السلطة. وهي ميليشيا شبه نظامية معروفة بـ”قوات الدعم السريع”، وبرزت في بداية حرب الإبادة الجماعية في دارفور. أُدين أسلافها (الجنجويد) الذين ورثتهم بارتكاب مجازر جماعية هناك أودت بما يقرب من 300 ألف مدني”.
لم تدرك إدارة بايدن “بعد مدى ضعف موقعها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فبعض الدول التي كان من المتوقّع أن تدعم أو على الأقلّ أن لا تعارض السياسة الأميركية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لم تعد تحترم هذه الإدارة
ثورة وذهب وفاغنر
“لتحقيق التوازن والسيطرة على تصاعد نفوذ الطرفين السودانيَّين المتحاربين، اعتمدت وزارة الخارجية وحلفاؤها الأيديولوجيون في أوروبا على قوّتين:
– المجتمع المدني السوداني الذي أطاحت ثورته حكومة البشير. لكنّ قوى الحرّية والتغيير المدنية لم تنجح في توليد التنظيم والقوّة اللازمين لإنشاء دولة ديمقراطية. كالعادة، بالغ المسؤولون الأميركيون في تقدير قوّة وكفاءة الحلفاء الديمقراطيين المحلّيين.
– القوّة الاقتصادية للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. لكنّ انفصال جنوب السودان عام 2011 كلّف السودان 75 في المئة من احتياطياته النفطية. وأدّى استمرار الصراع في المناطق الحدودية الغنيّة بالنفط ومحيطها إلى خفض الإنتاج في كلا البلدين. ومع أعباء الديون الثقيلة، وارتفاع التضخّم المتسارع، والاضطراب السكّاني، لم يستطِع السودان الهروب من العقوبات وجذب استثمارات جديدة والوصول إلى الأموال في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ساعدت هذه العزلة الاقتصادية في تقويض حكم البشير ومهّدت لسقوطه. اعتقد الاستراتيجيون الأميركيون أنّ ضغطاً مماثلاً سيؤدّي إلى إجبار الجيش وقوات الدعم السريع على احترام الخطوط الحمر الأميركية بما يكفي للقيام ببعض المبادرات التجميلية الرمزية في اتجاه الديمقراطية.
يعتقد الكاتب أنّ “فشل هذا الحساب أدّى إلى نشوء العنف في الخرطوم. وبينما كان الأميركيون يستمتعون بالتفاوض على جداول زمنية انتقالية مفصّلة وضبط العقوبات الاقتصادية، ركّز لاعبون آخرون على أهداف أكثر عمليّة. وكان لديهم سبب وجيه للقيام بذلك. وأدّت حمّى التزاحم على الذهب في منطقة الساحل إلى تمكين الجهاديين وجذب انتباه الجهات الأجنبية الغريبة مثل مجموعة فاغنر الروسية.
فإلى جانب اقتحام مرتزقة هذه الأخيرة المواقع الأوكرانية في باخموت، تبيع فاغنر خدمات أمنية عبر حزام الذهب في إفريقيا، بما في ذلك لقوات الدعم السريع في السودان. وقد جذب مزيج الذهب والنفط والموارد المعدنية الأخرى انتباه الصين ودول الخليج أيضاً”.
إقرأ أيضاً: السودان وسويسرا.. لماذا يفشل العرب وينجح الآخرون؟
لم تدرك إدارة بايدن “بعد مدى ضعف موقعها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فبعض الدول التي كان من المتوقّع أن تدعم أو على الأقلّ أن لا تعارض السياسة الأميركية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لم تعد تحترم هذه الإدارة. وفي الوقت نفسه تنخرط روسيا والصين في منافسة ترهق الولايات المتحدة وتحبطها”.
يختم ميد بأنّ وقف إطلاق النار وعودة السلام إلى شوارع الخرطوم المضطربة سيضع أمام الديمقراطية مصاعب أكبر من السابق في ظلّ تلاشي النظام الاقتصادي والسياسي الذي تقوده الولايات المتحدة، ومع ميل القادة العسكريين في السودان إلى اغتنام الفرص وتركيز السلطة في أيديهم.
* والتر راسل ميد: باحث متميّز في الاستراتيجية والحوكمة في معهد هدسون، وأستاذ جيمس كلارك تشيس للشؤون الخارجية والعلوم الإنسانية في كلية بارد في نيويورك.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا