في صيف عام 2009 قدّم الرئيس الليبي معمّر القذّافي طلباً إلى قمّة الدول الثماني يطلب فيه إلغاء دولة سويسرا من الوجود. وبعد شهرين قدّم طلباً رسمياً إلى الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة لمحو سويسرا من خريطة العالم. وكان من بين ما قال: “يجب تقسيم سويسرا بين البلدان المجاورة، يذهب القسم الإيطالي فيها إلى إيطاليا، والقسم الفرنسي إلى فرنسا، والقسم الألماني إلى ألمانيا”.
لم يكن ذلك الطلب العبثي، الذي رفضته الأمم المتحدة، نتيجة رؤية سياسية أو فكرية، ولا حتى بحثاً عن مصلحة ليبية، أو مناكفة استراتيجية، بل كان ردّاً على اعتقال الشرطة لأحد أبنائه في جنيف عام 2008 بتهمة إساءة التعامل مع موظّفين يعملون معه.
لو كان آلاف الليبيّين قد تمّ اعتقالهم في سويسرا ما كان للقذّافي أن يتحرّك، لكنّ اعتقال أحد أبنائه استحقّ أن يطالب بتفكيك الدولة السويسرية وحذفها من كوكب الأرض!
تتشكّل سويسرا من ألمان وفرنسيين وإيطاليين، ويتشكّل السودان من عرب وأفارقة، وفي سويسرا موارد محدودة جدّاً، بينما تتعدّد موارد السودان فوق الأرض وتحتها
سويسرا والسودان
تعامل العالم مع مطلب القذّافي باعتباره نكتة وحسب، وبينما ترك القذافي بلاده الثريّة ترتع في الفقر والدم، كانت سويسرا تواصل مسيرتها نحو الأفضل.
تتشكّل سويسرا من ألمان وفرنسيين وإيطاليين، ويتشكّل السودان من عرب وأفارقة، وفي سويسرا موارد محدودة جدّاً، بينما تتعدّد موارد السودان فوق الأرض وتحتها.
قادت النظم السياسية المتعاقبة في سويسرا ذلك البلد الصغير إلى أن يكون عنواناً للرفاهية، بينما قادت النظم السياسية في الخرطوم ذلك البلد الكبير إلى أن يكون عنواناً للحرب والاقتتال، وصراع الإثنيات والهويّات، ثمّ الانزلاق إلى أتون حرب أهليّة تجعل من البلد المنهك أكثر إنهاكاً، ومن المجتمع المقسّم أكثر تمزيقاً.
تبدو سويسرا حلماً بعيداً إلى حدّ الخيال إزاء أزمات منطقةٍ فقدت الطريق إلى المستقبل، لكنّ العودة إلى أصول الأشياء تؤكّد أن المسافة لم تكن بعيدة، وأنّ القيادة هي التي جعلت سويسرا عنواناً للغنى والرفاه، والسودان عنواناً للجوع والرصاص.
إنّها الحرب
تتّهم قوات الدعم السريع الجيش السوداني بأنّه يعمل طبقاً لأجندة الإخوان، ويتّهم الجيش قوات الدعم السريع بأنّها ميليشيا إخوانية منذ تأسيسها، وخدمت نظام البشير عقداً كاملاً من الزمان.
تتّهم قوى الحرّية والتغيير جماعة الإخوان بأنّها هي التي أوقعت بينها وبين الجيش، وهي أيضاً التي أوقعت بين الجيش وبين قوات الدعم السريع.
بالنسبة للبشير كانت السلطة فوق الدولة، والرئاسة فوق الوطن، ولا يهمّ بقاء السودان موحّداً أو مفكّكاً، قويّاً أو ضعيفاً، بل المهمّ بقاء البشير، وبقاء الإخوان، فذلك هو الهدف الأوحد للنظام الذي أسّسه الإسلاميون بعد انقلاب عام 1989
ما بين الجيش والدعم السريع والحرّية والتغيير وفلول الإخوان يتوه السودان داخل “مربّع برمودا”. وفي حين أغلقت المساجد أبوابها في صلاة عيد الفطر من عام 2023، وكان القليل منها الذي تحدّى الحرب يرفع الصوت بتكبيرات العيد وسط أصوات المدافع، كانت نحو 60 مستشفى من 80 مستشفى في الخرطوم والولايات المجاورة قد أغلقت أبوابها.
وصفت وكالة الأنباء الألمانية ساحات صلاة العيد في الخرطوم بـ”ساحات أشباح”. ووصفت نقابة أطبّاء السودان الوضع الصحّي بأنّه “كارثي”، وأنّ جثث السودانيين تتناثر في الشوارع وعلى جوانب الطريق. وقالت منظمة الصحة العالمية إنّها أحصت 459 حالة وفاة وأنّ “العدد أكبر بكثير”.
لم يعد في السودان سوى إجلاء رعايا الدول، وهروب المواطنين، ودفن الجثث، والبحث عن مستشفى لديه كهرباء لعلاج المصابين. ومع كلّ ساعة تتواصل فيها المعارك يفقد الناس الأمل في نهاية قريبة لهذه الحرب. وحسب مركز “ستسراتفور” الأميركي للدراسات فإنّ استمرار الحرب هو السيناريو الأكثر ترجيحاً.
فاغنر.. وتاجر الإبل
تضاعفت قوات الدعم السريع برئاسة محمد حمدان دقلو “حميدتي” أكثر من ثلاث مرّات منذ سقوط البشير حتى الآن. فقد ازداد عددها من 30 ألفاً إلى 100 ألف. وهكذا نجح تاجر الإبل، الذي أسّس ميليشيا صغيرة لتأمين القوافل في دارفور، في أن يصبح الحليف الأوثق لنظام عمر البشير.
ما يزال حميدتي في الأربعينيات من العُمر، وفي حال بقائه على قيد الحياة، ومن دون تسوية سياسية، فإنّ أمامه متّسعاً كبيراً من الوقت.
كان جهاز المخابرات السودانية هو من ارتكب جريمة إنشاء “جيش موازٍ” في السودان. ذلك أنّ حميدتي الذي انقطع عن التعليم في الصف الثاني الإعدادي، أصبح مع رجاله مكوّناً تابعاً للمخابرات في عام 2007، وتمّ اعتباره عام 2017 كياناً رسميّاً “شبه عسكري”.
قامت المخابرات السودانية بترقية حميدتي من “الرتبة صفر” إلى رتبة “العميد” عندما انضمّ إلى جماعة “الجنجويد”، ثمّ ترقّى إلى رتبة لواء، ثمّ رتبة فريق، على الرغم من أنّه لم يحصل على الشهادة الإعدادية.
ثمّة حدود للسودان مع سبع دول إفريقية، وتمتدّ الحدود المصرية السودانية على أكثر من 1,200 كيلومتر. وفي حال انهيار السودان فإنّ ذلك سيكون بمنزلة تسونامي قارّيّ يعصف بنصف القارّة السمراء
بالنسبة للبشير كانت السلطة فوق الدولة، والرئاسة فوق الوطن، ولا يهمّ بقاء السودان موحّداً أو مفكّكاً، قويّاً أو ضعيفاً، بل المهمّ بقاء البشير، وبقاء الإخوان، فذلك هو الهدف الأوحد للنظام الذي أسّسه الإسلاميون بعد انقلاب عام 1989.
سيطر حميدتي على مناطق مهمّة لاستخراج الذهب، وتواصل مع روسيا وقوى إقليمية، وأصبح المنطق الحاكم له: إذا كنتُ قد حصلت على كلّ هذا من العدم، فلماذا لا أواصل العمل؟ وراح يهرول في رحلته المثيرة من “لا شيء إلى كلّ شيء”.
نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية تقريراً يؤكّد دعم مجموعة “فاغنر” الروسية شبه العسكرية لحميدتي، وعرضها عليه دعمه بصواريخ مضادّة للطائرات توجد في مخازنها في أفريقيا الوسطى.
وبدورها أكّدت محطّة CNN أنّ مجموعة فاغنر تدعم قوات الدعم السريع بصواريخ. لكنّ رئيس مجموعة فاغنر نفى الاتّهامات الأميركية، وقال إنّ مجموعة “فاغنر” ليست متورّطة بأيّ حال في الصراع في السودان.
قاسم سليماني في القاهرة..
في عام 1992 حكمت جماعة الإخوان أفغانستان، وأصبح عضو التنظيم الدولي برهان الدين ربّاني رئيساً في كابول، ثمّ انتهى الأمر إلى الفوضى وانهيار الدولة. وفي عام 2012 حكم الإخوان مصر وبدأت خطط تأسيس جيش موازٍ على غرار الحرس الثوري، وكادت مصر أن تنزلق إلى الفوضى. وفي عام 1989 قاد الإخوان انقلاباً في السودان، وبعد ثلاثين عاماً تركوا البلاد غارقة في الفوضى.
في سنوات الإخوان في السودان كان المشروع هو “التمكين” لا “التمتين”، تمكين الجماعة لا تمتين الدولة، فانقسم السودان إلى دولتين، ثمّ ها هي البلاد تواجه شبح انقسام جديد.
حين قامت الثورة المصرية 2013 وسقط نظام الإخوان، كان البعض يقول: “لماذا الثورة؟ فلننتظر، ونرَ، فسيخرجون بالانتخابات بعد أعوام”. وبينما هؤلاء البسطاء يروّجون للجماعة تحت ستار الديمقراطية، كان قاسم سليماني في القاهرة يدرس إنشاء الجيش الموازي، وكان محمود أحمدي نجاد يرفع بيده علامة النصر، وأمّا إردوغان فقد اعتبر أنّ الخلافة المزعومة باتت قاب قوسين أو أدنى من التحقُّق. ربّما لا يحتاج هؤلاء إلى مزيد من الجدل بشأن ما كان سيحدث، ذلك أنّنا أمام تجربة مجاورة حكَم الإخوان فيها ثلاثة عقود، وبعد ربع قرن من الحكم انفصل الجنوب، وصعد الجيش الموازي، وإذا بالإخوان يدفعون السودان إلى أوحال المستنقعات، حيث لا شيء يطفو في الأعلى، بل يتمّ شدّ الجميع إلى القاع.
لاجئون بلا حدود
ثمّة حدود للسودان مع سبع دول إفريقية، وتمتدّ الحدود المصرية السودانية على أكثر من 1,200 كيلومتر. وفي حال انهيار السودان فإنّ ذلك سيكون بمنزلة تسونامي قارّيّ يعصف بنصف القارّة السمراء.
تتّصل السودان بتشاد التي تتّصل بدورها بهلال الدم الإفريقي، الذي يمتدّ من بوكو حرام في نيجيريا إلى تنظيم القاعدة في الصومال وجماعة داعش في موزمبيق، وفي حال الانهيار فإنّ قوس الفوضى الممتدّ من الأطلسي إلى الهندي سيكون منفتحاً على السودان، وستكون مضاعفات الإرهاب لا تقلّ خطراً عن مضاعفات الحرب والإفلاس.
إقرأ أيضاً: حرب السودان: ميليشيات تواجه الدولة والجيش
هناك نحو ثمانية من الجيوش الموازية والميليشيات المسلّحة تراقب حرب الجيش والدعم السريع لتقرّر ماذا ستفعل وإلى من ستنضمّ، وهو أمر يدعو إلى المزيد من القلق في بلد يختبئ فيه المسلّحون بين المدنيّين.
يحتاج السودان في هذه اللحظة الفارقة إلى الحكمة. لا توجد فرصة أخرى لتصحيح الأخطاء. إنّها الدقيقة الأخيرة من المباراة الجيوسياسية المعقّدة. الخطأ الواحد ينهي كلّ شيء. حفظ الله السودان.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.