لا نريد أن نقلّد أنفسنا أو الآخرين بالعودة إلى النواح على هذا البلد العربي أو ذاك مثل سورية والعراق ولبنان واليمن وتونس.. إلخ. السودان بلد النيلَين الأبيض والأزرق يشكو من العطش إلى الغذاء والدواء، وقبل ذلك وبعده: الأمن! ومنذ القرآن الكريم وسورة قريش نعلم ركيزتَي الحياة الإنسانية السليمة: “أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” (الآية 4).
حميدتي وأخوه وأبناء عمّه وأقاربه هم من فرع “دقلو” من عرب الرزيقات بدارفور والجهات المجاورة. وكان في شبابه يمارس مع أقاربه (وقد برزت شخصيّته القيادية مبكراً) تربية المواشي (الإبل والغنم) والاتّجار بها. وعندما بدأت الاضطرابات بدارفور وأقاليم النيل في مطالع القرن الحادي والعشرين، فكّرت مخابرات عمر البشير حاكم السودان السابق، وقد كان معظم الثائرين من قبائل غير عربية، في الإفادة من التوتّر بين القبائل على الماء والكلأ والمراعي، بإعطائه طابعاً إثنيّاً، فاتّصلت عام 2003 بدقلو الذي كان قد بدأ أيضاً الاتّجار بالسلاح، وأنشأ ميليشيا مسلَّحة ظلّت أعدادها تتنامى حتى دخل فيها الرزيقات جميعاً، وشارك على حسابه في الهجمات على القبائل الأُخرى التي كان جيش البشير قد بدأ بمهاجمتها.
حميدتي وأخوه وأبناء عمّه وأقاربه هم من فرع “دقلو” من عرب الرزيقات بدارفور والجهات المجاورة. وكان في شبابه يمارس مع أقاربه تربية المواشي والاتّجار بها
إذاً نمت الميليشيا وتحسّن مستوى تسليحها، لكنّها اشتهرت بفظائعها إلى جانب ميليشيا أخرى أنشأتها المخابرات ولم تستطع ضبطها هي الميليشيا المعروفة باسم “الجنجويد” والتي كانت تكتسح القرى ومخيّمات اللجوء للقتل والنهب وسبي النساء بالاسم الصريح: مقاتلة السود!
وقتها جرى اتّخاذ قرار بمجلس الأمن للتدخّل الدولي لوقف المذابح، ثمّ مع القوات الدولية جاءت المنظّمات الإنسانية، وتدخّلت أيضاً المحكمة الجنائية الدولية واتّهمت أشخاصاً بأعيانهم من الجنجويد والجيش السوداني. وبوساطات دولية، انعقدت اتّفاقيات، وجرى وقف رسميّ لإطلاق النار، واستُعيدت إدارة مدنيّة تُعاونها القوات الدولية، وانسحب الجيش السوداني، وعمل الجيش “توافقاً” (2013) مع ميليشيا الدعم السريع (التي ضمّت في صفوفها الكثير من الجنجويد) على أن تخلف الجيش المنسحب، وتتعاون مع قوات الأمم المتّحدة بعد عشر سنواتٍ من المذابح المتبادلة (2003-2013).
خلال ذلك تعاظمت أعداد ميليشيا الدعم السريع، وأقامت علاقات مع جهات الاضطراب الأخرى والحكومات في إثيوبيا وتشاد وليبيا والحركات المسلّحة التي كانت تقاتل حكومة البشير ومتحالفة مع إثيوبيا وجنوب السودان. وقد كانت الميليشيا وما تزال في بحبوحة بسبب استيلائها على مناجم الذهب الصغيرة في أنحاء مختلفة من دارفور وخارجها إلى الحدود التشادية. وحتى الآن يبلغ مرتّب عنصر واحد في تلك الميليشيا سبعة أضعاف مرتّب الجندي في الجيش السوداني. وقد قلّدت الجيش السوداني في التنظيم فأعطت عناصرها من أقارب حميدتي رتباً عسكريةً عالية وصلت إلى عقيد ولواء (شقيق حميدتي) وفريق، شأن حميدتي نفسه.
التحضير لثورة 2019
لنلاحظ أنّ معظم الاضطرابات خلال عهد البشير إنّما كانت تجري في الأرياف والصحاري والمناطق الحدودية، وما كانت المدن غير المسلَّحة تدخل فيها. واشتدّت الأزمة الاقتصادية في مناطق مدن النيل بسبب سنوات من الجفاف، والحصار الدولي. ثمّ بدأت الاضطرابات السلمية والتظاهرات تتنامى في مدن النيل تحت وطأة الأزمة (2017) إلى أن صارت ثورةً عارمةً عام 2019، وتكوّنت جبهة قوى الحرّية والتغيير، وبدأت تدخل معها أحزاب سياسية تقليدية. ولذلك فكّر جنرالات جيش البشير وأشركوا معهم حميدتي وميليشيات أُخرى، في كيفيّة الخروج من نظام البشير باتّجاه الانفتاح على قوى التغيير، وعلى المجتمع الدولي ومصر ودول الخليج هروباً من المجاعة والاضطراب. وانقسم سياسيّو نظام البشير وعسكريّوه بين مؤيّدٍ للخروج وبين داعٍ إلى مصارعة هؤلاء السلميّين اليساريّين والنقابيين كما صارعوا الأحزاب من قبل. وبسبب تزايد السوء والتردّي في الأوضاع الاقتصادية والأمنيّة، والاضطراب في الشارع، انتصرت وجهة نظر دُعاة الخروج، وجرى الإعلان عن “الثورة”. وحدث خلاف آخر: هل نعطي فرصة للبشير ومؤيّديه من السياسيين والإسلاميين للهرب؟ أم نقبض عليهم ليصدّق الناس مظهر “الثورة”؟ وفي النهاية هرب حوالى النصف، وبقي النصف الآخر في السجن (مثل البشير) وفي منازلهم.
عدد أفراد الجيش السوداني حوالي أربعمئة ألف، ومقاتلوهم حوالي مئتين وخمسين ألفاً، لكنّهم موزّعون في سائر أنحاء الدولة
في قرابة السنوات الأربع بعد انقلاب الجيش، حدثت عدّة تطوّرات. أصرّت جبهة قوى الحرّية والتغيير على الحكم المدني، وعودة الجيش إلى ثكناته بعد أكثر من أربعة عقود على خروجه منها. وبسبب التأييد الكاسح، والانفتاح الحاصل على السودان الجديد، أجرى الجيش ومعه حميدتي اتّفاقاً سياسياً على مرحلةٍ انتقاليةٍ مدّتها ثلاث سنوات تنتهي بانتخابات وحكم مدني كامل. وتشكّلت حكومة مدنية برئاسة الخبير الاقتصادي عبد الله حمدوك، وحقّقت نجاحات بالداخل والخارج. لكنّ ضبّاط الانقلاب أو بعضهم ضاقوا ذرعاً بإصرار قوى التغيير على مغادرة الجيش للسلطة، واستمرار تظاهرات الحركات الراديكالية في الشارع. وأخيراً وعلى أثر مذبحة قامت بها قوات دقلو بالمتظاهرين أمام القصر الجمهوري، قام الجيش بانقلابه الثاني، ولمّا لم يخضع حمدوك أعفاه وشكّل حكومة من مدنيين وعسكريين موالين له وتنكّر لكلّ الاتّفاقيات، ما عدا اتّفاقه مع الحركات المسلّحة بالأرياف الذي عُرف باسم “اتفاق جوبا” (عاصمة جنوب السودان).
حمدتي: سياسة أو انقلابات؟
أمام الضيق الشديد وعودة الحصار بعد أقلّ من عام على الانقلاب الثاني، اضطرّ الجيش إلى التفاوض، وعاونت في المفاوضات اللجنة الرباعية (وفيها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة)، إلى أن انعقد “الاتّفاق الإطاري” الأوسع من الأول والأكثر شمولاً. وهو يتضمّن جوانب عسكرية وأمنيّة واقتصادية وسياسية، يجري تطبيقها خلال عامين، وتنتهي بانتخابات. ومن ضمن البنود العسكرية اندماج قوات الدعم السريع بالجيش.
يبدو أنّ حميدتي كان موافقاً في البداية على الاندماج وأن يتحوّل إلى العمل السياسي، لكنّ ضبّاط الميليشيا لم يوافقوا، فطالب حميدتي بتطويل مدّة الاندماج إلى عشر سنوات، بينما وافق الجيش على سنتين فقط. وأمام إلحاح الجيش ووجود توقيتات لكلّ الخطوات، قرّر حميدتي الضغط لإيقاف الإجراءات من طريق الاعتصام بالخرطوم (القصر الجمهوري والقيادة العامّة للجيش والمطار وخرطوم بحري). أمّا مروي البعيدة نحو الشمال فقد قرّر الاستيلاء على مطارها لأنّ فيها القيادة الرئيسية لسلاح الجوّ وقاعدة مهمّة. وقد تبيّن أنّ فيها كتيبة مصرية من القوات الجوّية لتدريب الجيش السوداني بناءً على اتفاقية بين الجيشين.
حميدتي أطْلع القوى الداخلية على خطّته للضغط وليس للاستيلاء على السلطة، فمنها من سكت (قوى الحرّية والتغيير) وبعضها صرّح بالمعارضة. أمّا الجيش الذي صمَّم على المواجهة مهما كلّف الأمر فقد أعلم بذلك اللجنة الرباعية والمندوب الدولي والدول العربية المعنيّة بالوضع السوداني. وكانت أولويّته إخراج الدعم السريع من مروي ومن الخرطوم. وقد نجح في الخطوة الأولى، ولم ينجح بعد في الخرطوم أو نجح جزئياً: أخرجهم من المطار ومن القيادة العامّة وخرطوم بحري، من دون القصر الجمهوري ومرافق أخرى (التصنيع العسكري؟).
هناك الآن مئات الضحايا من المدنيين (لا تُعرف أعداد العسكريين)، وتعطُّلت نصف المستشفيات، وفُقد الغذاء والماء، وتوقّفت حركة الانتقال في الخرطوم ومدن أخرى، فيما كلّ الجهات تدعو إلى وقف النار وتأمين الممرّات الإنسانية. ولأنّ الجيش عاد للسيطرة على ميناء خرطوم بحري وبورسوان، فقد أمكن إجلاء البعثات الدبلوماسية باتّجاههما. والبارز الآن استمرار مطالبة الأمم المتحدة بالهدنة الإنسانية التي لم تفلح حتى في أيّام العيد. بينما نجحت المملكة العربية السعودية في إجلاء البعثات الدبلوماسية (بالتنسيق مع الجيش) إلى جدّة. وبواسطة الإمارات أمكن إطلاق 27 جندياً مصرياً كانت قوى الدعم السريع قد خطفتهم من مطار مروي، وأمكن إجلاء الجنود المصريين الآخرين وعددهم حوالى مئتين بطائرات عسكرية مصرية من طريق مطار دنقلي.
سيتقدّم الجيش، لكنّ قوات دقلو لن تنتهي، وتستطيع الانسحاب نحو دارفور إلى مواطنها القَبَلية. ولذلك لا بدّ من التفاوض أوّلاً وآخِراً
ما هي الحظوظ والمصائر في الصراع؟
عدد أفراد الجيش السوداني حوالي أربعمئة ألف، ومقاتلوهم حوالي مئتين وخمسين ألفاً، لكنّهم موزّعون في سائر أنحاء الدولة. أمّا دقلو فيملك ميليشيا من حوالي مئة ألف. وتسليح الجيش أفضل، لكنّ الميليشيا متعوّدة على حرب العصابات أو الكرّ والفرّ. وقد أظهرت القوى الخارجية حياداً علنيّاً ودعوات مستمرّة إلى وقف النار والعودة إلى الحوار. إنّما تعرُّض قوات الدعم السريع للأميركيين والمصريين يُظهر أنّهم يعتبرون المصريين والأميركيين ضدّهم. ويبدو أنّ للميليشيات علاقات في تشاد وليبيا وإثيوبيا وغيرها من الدول. وأكثر ما أثّر لصالح الجيش سلاح الطيران، لكن ظهرت مضادّات عند قوات الدعم السريع يبدو أنّها وصلتها بعد نشوب النزاع. وتبدو الأحزاب السياسية بالمدن مع الجيش، وأمّا حركات التغيير فتكره الجميع، لكنّها تفضّل دقلو على البرهان. وتنقسم الحركات المسلّحة الستّ أو الثماني (أطراف اتفاق جوبا) بين الجيش والدعم السريع.
كيف ينتهي الأمر بعد الخراب الهائل؟
سيتقدّم الجيش، لكنّ قوات دقلو لن تنتهي، وتستطيع الانسحاب نحو دارفور إلى مواطنها القَبَلية. ولذلك لا بدّ من التفاوض أوّلاً وآخِراً. وفي حين يفضّل التشاديون والإثيوبيون انقسام السودان من جديد، يهتمّ العرب، وفي طليعتهم المصريون والسعوديون، ببقاء السودان موحَّداً.
لماذا نهتمّ بالسودان؟
لأربعة أسباب:
– السبب الأوّل أنّه بلد عربي، وقد عانى منذ الستّينيات من الانقلابات. وأظهر حيوية هائلة في التمرّد السلمي على العسكر في الستّينيات والثمانينيات والآن.
– السبب الثاني أنّه بلد غنيّ جدّاً في المجال الزراعي والخصوبة، وهو لسوء الحظ يعاني دائماً من الجفاف (!) والمجاعات والنزاعات الداخلية خارج المدن. ولذلك يشكّل الاستقرار والحيوية الشعبية عاملين كفيلين بإنتاج تجربة رائدة لدولةٍ ناجحةٍ أفشلها الإسلامويّون طوال أكثر من ثلاثة عقود.
إقرأ أيضاً: هل يفلت السودان من فخّ الحرب الأهليّة؟
– السبب الثالث: الحاجة إلى تجربة عربيةٍ ناجحة في الخروج من سيطرة الجيش / الميليشيات، وهو الأمر الذي تعاني منه سوريا والعراق ولبنان والسودان. إذا اتّفقوا بقي البؤس والفوضى والخروج على حكم القانون، وإذا اختلفوا تحدث الحرب الأهلية. لقد أوشكت القوى المدنية والجهات العربية والدولية أن تفرض على الجيش السوداني الانسحاب من الساحة السياسية. لكن كما في كلّ حالةٍ أخرى وبعد التظاهرات والانتخابات تتدخّل الميليشيات وتنتشر الفوضى من جديد. يبدو أنّ الميليشيات في السودان كما في غيره من البلدان تبقى عدوّاً للدولة مهما جرت مجاملتها وتعظيمها أو لأنّه تجري مجاملتها وتعظيمها!
– أمّا السبب الرابع فهو الطموح إلى أن نخرج نحن العرب من عصر الميليشيات الذي دخله السودان أيّام البشير، ودخله الآخرون بعد عام 2010، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.