قارب حزب الله وحركة أمل بتوتّر وارتباك تقارب قوى المعارضة وتوافقها على مرشّح لمواجهة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. في شكل مباشر، يبدو الارتباك مفهوماً، خصوصاً أنّ الاتفاق على تبنّي شخصية، إذا استمرّ جدّياً، سيحرج الثنائي الشيعي كثيراً، لأنّ القوى المسيحية تتكاتف ضدّ مرشّحه، بالإضافة إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي وقوى مستقلّة، وانفتاح على اللقاء الديمقراطي. والسبب المباشر الآخر وراء هذا التوتّر هو ما سمعه حزب الله من الفرنسيين قبل أيام من أنّه في حال تمّ التوافق بين المعارضين لفرنجية على مرشّح وتبنّاه البطريرك وناقشه مع الرئيس ماكرون، بالإضافة إلى توفّر دعم دولي لهذا الطرح، فإنّ باريس لا بدّ لها أن تتعاطى بجدّية مع ذلك.
رواية أخرى لارتباك الحزب
لكن هناك رواية أخرى لكلّ هذا الارتباك والتوتّر تحتاج تفاصيلها أو اكتمال مشهدها إلى العودة بالذاكرة إلى عام 2005. وما يحتاج إليه المشهد للاكتمال هو الإشارة إلى عناصر متعدّدة فيه: الأوّل قوى 8 آذار، وخصوصاً حزب الله وحركة أمل، الثاني النظام السوري، الثالث المملكة العربية السعودية، الرابع إيران، والخامس فرنسا. طبعاً لا حاجة هنا إلى ذكر الولايات المتحدة الأميركية، فهي الحاضر الأبرز في كلّ الاستحقاقات على الرغم من إيحاءات الغياب أو الانكفاء أو عدم التدخّل.
في عام 2005 وبُعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقف حزب الله في لبنان على مشارف عزلة سياسية وعربية كبيرة، خصوصاً بعد تنظيم تظاهرة 8 آذار، والردّ عليها في تظاهرة 14 وصولاً إلى استقالة الرئيس عمر كرامي من رئاسة الحكومة، والذهاب إلى حكومة تسوية بهدف الإعداد للانتخابات النيابية التي أوجبت فكّ العزلة عن الحزب وبذل محاولة أولى لتحقيق فصل ما بين حزب الله والنظام السوري، خصوصاً أنّ أصابع الاتّهام السياسي في تلك الفترة صُوّبت نحو دمشق، فيما تمّ التعاطي مع الحزب على قاعدة مدّ اليد.
قارب الحزب وحركة أمل بتوتّر وارتباك تقارب قوى المعارضة وتوافقها على مرشّح لمواجهة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية
قامت فكرة مدّ اليد والاحتضان في تلك الفترة على جملة معطيات إقليمية وداخلية. فعلى وقع خروج الجيش السوري من لبنان، كان يتمّ نسج ثوب التحالف الرباعي. إذ اعتبر حزب الله أنّه يمكن تجاوز الاغتيال بالتحالف مع ورثة الدم وحلفاء رفيق الحريري، فيما هؤلاء اعتبروا أنّهم بذلك يعملون على فصل الحزب عن سوريا والانطلاق في مشروع سياسي جديد يتحقّق بموجبه ما كان يطمح إلى تحقيقه رفيق الحريري في حياته. تعاطى الحزب ببراغماتية مع الأمر، على وقع استمرار مفاعيل التهدئة الإيرانية السعودية والتعاون الذي كان قائماً أيام الرئيس محمد خاتمي والملك فهد بن عبد العزيز الذي كان قد أوكل هذا الملفّ إلى وليّ عهده عبد الله بن عبد العزيز. لم تكن فرنسا بعيدة عن كلّ هذا السياق والتطوّرات.
عليه قدّم عام 2005 صورة أساسية، وهي مشهد خروج الجيش السوري من لبنان، فيما تعزّزت الوضعيّة السياسية لحزب الله إثر تحالفه مع الخصوم الذين طالبوا النظام بسحب جيشه بناء على تقاطعات إقليمية ودولية. إذاً عزّز حزب الله من مكانته وانقلبت الأحوال بين المتحالفين إلى حدود الصراع ووصلت إلى مشارف الخصومة أو العداوة. أخذ الحزب يمكّن نفسه على مدى السنوات التالية، وصولاً إلى أحداث 7 أيار وما جرى بعدها من انقلاب على معادلة “السين-سين”، وهو ما اعتُبر ردّاً بمفعول رجعي على التحالف العربي ورعاته. نجح الحزب بالإطاحة بـ”السين سين” من خلال الانقلاب على حكومة سعد الحريري، وكرّس مبدأ عدم قدرة أيّ طرف على تشكيل حكومة بدون موافقته أو رضاه، وبالتالي تجاوز الأمر مسألة الثلث المعطّل. في عام 2016، كرّس حزب الله معياراً ثالثاً مفاده أنّه الطرف الوحيد الذي يقرّر انتخاب رئيس للجمهورية وينتظر توافر الظروف التي تتلاءم مع شروطه وموقفه. وبذلك أصبح الحزب يختار الرئيس، ويوافق على رئيس الحكومة ويتحكّم بمسارات تشكيلها، إلى جانب احتفاظه بانتخاب رئيس مجلس النواب.
تغيّر الصورة
بدأ بعض ما في هذه الصورة يتغيّر، ولا سيما بعد الانتخابات النيابية في عام 2022 وتوازنات المجلس النيابي، وأمّا الأهمّ فهو سياق التطوّرات الإقليمية والدولية. ففيما عايش حزب الله نشوة انتصار على صعيد علاقاته الدولية عبر التكامل مع فرنسا ودورها، وصولاً إلى تبنّيها لمعادلته الرئاسية، وجد الأمور تنقلب رأساً على عقب:
في العقل السياسي العوني ثابتة لم تهتزّ منذ 2006، وربّما تكون من نتاج خبرات المنفى، مفادها أنّ التحالف مع “الحزب” له ثمن يُقبض في المناصب والنفوذ، وهو كبير
– أوّلاً من خلال الاتفاق السعودي الإيراني.
– ثانياً من خلال التقارب السعودي السوري، وصولاً إلى الاتفاق بين قوى المعارضة في لبنان على مرشّح رئاسي تتبنّاه القوى المسيحية والبطريرك الماروني. استفاق هذا التوتّر لدى حزب الله بفعل قراءته لكلّ هذه الوقائع، خاصة في ظلّ الإصرار على تعميق مدى الاتفاق السعودي الإيراني والذهاب إلى تطويره وتطبيقه، وهو ما أبلغه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى بشار الأسد. وهذا الاتفاق يتطلّب البحث عن تسوية في لبنان، وليس عن غالب ومغلوب، وعندما تبحث العواصم الإقليمية والدولية الملفّ اللبناني لا يمكن أن يستمرّ ما بُحث بين فرنسا والحزب.
– ثالثاً، لا بدّ للمعيار السوري وعودة دمشق إلى الجامعة العربية أن يكونا ذات مفاعيل أبعد وأوسع، خصوصاً أنّ ما يتسرّب عن اللقاء بين بن سلمان والأسد يشير إلى وضوح في الموقف من ضرورة التعاون وعدم المناورة، وعندما جيء على ذكر الملفّ اللبناني كان مبدأ بن سلمان واضحاً من حيث انتخاب رئيس توافقي. ويُحكى أيضاً أنّ دمشق أبلغت الحزب بذلك، فكان الجواب الإصرار على الموقف ذاته.
إقرأ أيضاً: الشياطين التسعة.. لعبة الحزب المفضّلة
ما دفع أيضاً الحزب إلى التوتّر هو أنّه بعد سنوات على إظهار نفسه قوّة إقليمية غيّرت المعادلات في المنطقة، أصبح واجباً عليه العودة إلى اللعبة الداخلية، وبات مطالَباً بالعودة والخروج من سوريا، فيما تُبحث الملفّات الأساسية مع طهران أو دمشق. في هذا السياق، يرى الحزب أنّه لا بدّ من قراءة مقال “السين-سين”، الذي نُشر في جريدة الرياض السعودية ثمّ سُحب، بطريقة مختلفة، على الرغم من محاولة حلفاء دمشق تفسيره بأنّه أمر إيجابي وجزء من رهاناتهم أو ممّا كانوا قد توقّعوه مسبقاً، لكنّ واقع الحال أنّ تلك “السين-سين” عمل حزب الله بقوّة على إسقاطها لدى إطلاقها في نسختها الأولى وهو أكثر من لا يريدها. ولن يكون الحزب في وارد تقديم هذه الورقة إلى دمشق لأنّه يعتبر أنّ سوريا هي التي كانت بحاجة إليه للحفاظ على نظامها، وبالتالي لا يمكنها التأثير عليه في لبنان. ولذلك يعمل حزب الله بهذا التصعيد على قطع الطريق أمام أيّ محاولة لدمشق أن تقول للرياض إنّها قادرة على التأثير إيجاباً في لبنان.