أن يتخلّف تسعة ممّا يُسمّى نواب الثورة عن التوقيع على بيان يدين المناورة العسكرية الأخيرة لميليشيا حزب الله، مؤشّر إلى ما هو أعمق من التكتيكات السياسية التي اختار هؤلاء اعتمادها، وعلى رأسها أنّهم ضدّ “الاصطفافات”.
ما تعنيه هذه الضدّيّة أنّ النواب الأفاضل لا يوقّعون على بيان لا يتضمّن باقة متكاملة من الإدانات، تشتمل على إدانة الميليشيا، وقدح رياض سلامة، وربّما التطرّق إلى تفنيد صيغة 1943 وأوجه قصور اتفاق الطائف، وتفنيد آليّات تكوُّن الزعامة عند دروز جبل لبنان منذ عام 1840.. وتزداد العناوين التي يشترطون شمولها في بيان الإدانة كلّما اتّسعت رقعة الموقّعين عليه، وضمّت نخباً وأحزاباً سياسية وجهات وتيّارات، خشية السقوط في فخّ أن يُحسب عليهم تلاقح ما مع حزب القوّات اللبنانية أو الكتائب أو المستقلّين أو غيرهم..
وفق هذا المعيار، ألا يجب على اليساريّين مثلاً من هذه النخبة أن لا يتّخذوا موقفاً مؤيّداً لفلسطين، كي لا يُحسب عليهم أنّهم يتقاطعون، والعياذ بالله، مع ميليشيا حزب الله، التي سطت منذ زمن بعيد على العنوان الفلسطيني؟ فهل عليهم كلّما تضامنوا مع فلسطين أن يشتمل نصّ تضامنهم على نقدٍ لحزب الله، ورياض سلامة وميشال شيحا، والجنرال غورو وربّما حملات إبراهيم باشا إلى بلاد الشام؟
أن يتخلّف تسعة ممّا يُسمّى نواب الثورة عن التوقيع على بيان يدين المناورة العسكرية الأخيرة لميليشيا حزب الله، مؤشّر إلى ما هو أعمق من التكتيكات السياسية التي اختار هؤلاء اعتمادها، وعلى رأسها أنّهم ضدّ “الاصطفافات”
ألا يجب عليهم أن يأنفوا من التعبير عن أجندات الإصلاح الاجتماعي، كي لا تُحسب مواقفهم تقاطعاً واصطفافاً مع الجهات التي حملت هذ الأجندات ردحاً من الزمن وكانت شريكة في انهيار الدولة؟ ألا يجب على غيرهم من الليبراليين أو اليمينيين أو يمين الوسط، أن يتغافلوا عن الأجندة الاقتصادية الليبرالية كي لا يُحسب موقفهم أنّه تقاطع مع مَن حملوا العناوين الليبرالية، ومثّلوا جوانب من إنجازاتها، كرياض سلامة، قبل أن يقرّر سلامة أن يتحوّل إلى كبير محاسِبي المافيا؟
أيديولوجيا طهرانية عقيمة
هذه المقاربة الطهرانيّة للسياسة باعتبارها “رُهاباً من الاصطفاف” تؤول في نهاية المطاف إلى تفريغ السياسة نفسها من معانيها، وتحوِّلها إلى شعارات خالية من المضامين، وبلا أيّ أثر عمليّ على الأرض. فما السياسة، في أصدق أشكالها، ما لم تكن مسرحاً للتفاوض والتجسير بين مختلفين لخلق أوسع مساحات مشتركة ممكنة؟ بهذا المعنى فإنّ أداءً كأداء النوّاب التسعة الآن، لا يعدو كونه تجريداً أحمق لهذه المرونة من المجال السياسي، واستبدالها بأيديولوجيا طهرانية عقيمة، لا تفعل شيئاً سوى تأجيج الانقسامات، وحجب القضايا وتبديد فرص التسوية والتفاهم حولها.
إنّ مهمّة هؤلاء النواب، نظريّاً، هي السعي إلى إعادة تعريف القضايا المحقّة للّبنانيين أكانت قضايا السيادة أم قضايا محاربة الفساد، لا الهرب منها إلى جنّة الشعارات الشعبوية والطهرانيّات الأخلاقية.
رفضهم التوقيع على بيان يُدين مناورة ميليشيا مسلّحة، سبق لها أن غطّت السلاح غير الشرعي الفلسطيني الذي انطلق من لبنان قبل أسابيع، واحتفلت باستضافة وزير خارجية إيران عند الحدود الجنوبية وسمحت له بأن يتوعّد بمواجهات وحروب مع دولة ثالثة من دون أيّ اعتبار لإرادة اللبنانيين ولا لرأي مؤسّساتهم السياسية، هو تعبير عن النجاح الباهر لميليشيا حزب الله، في استغلال خطوط الصدع الطائفي والسياسي في لبنان، وتخريب عملية صنع القرار الوطني.
الردّ على ميوعة “14 آذار” أحياناً في مواجهة حزب الله، وصولاً إلى التواطؤ التامّ معه، في السنوات الأخيرة، إن كان هذا هو الهدف، يجب أن لا يكون عذراً لِما يُسمّى نواب الثورة للنأي بأنفسهم عن مواجهة هذا العنوان الرئيسي من عناوين انهيار السياسة والمؤسّسات والدولة والمجتمع.
ما يقوم به هؤلاء النواب التسعة هو أداء يجعل منهم الأدوات ذاتها التي يستخدمها حزب الله لتعزيز أجندته. مجرّد “أغبياء مفيدين” يخدمون، عن غير قصد، مصالح جماعة أثبتت باستمرار أنّها تضرّ باستقرار لبنان
“رُهاب الاصطفاف” والدعوات للحوار
أمّا ما نحن بإزائه، فليس أكثر من عرضٍ عموميٍّ للسذاجة السياسية يخلط بين “رُهاب الاصطفاف” وبين الدعوات الهلاميّة للحوار! فالحوار وإن كان هو من أسس السياسة عامّةً، يصير في حالة الحزب تآمراً مباشراً على التطلّعات الديمقراطية للّبنانيين، كونه يتجاهل التاريخ الطويل للميليشيا التي تستخدم مثل هذه السبل كمجرّد ذرائع لكسب الوقت ونزع فتيل الغضب العامّ ضدّ حيازتهم للسلاح غير الشرعي. وعليه آن لنا أن نسأل أنفسنا، أين نرسم الخطّ الفاصل كلبنانيّين، بين الحوار المثمر وبين الاسترضاء المتعمّد والجبان والذي لم يُنتج إلا زيادة زعزعة التوازن السياسي في لبنان، والسماح للميليشيا أن تمضي في مشروعها بلا عوائق جدّية.
إلى ذلك، فإنّ رفض النواب التوقيع على البيان، يقوّض ضمنيّاً قيم الديمقراطية والتمثيل العامّ التي انتُخبوا للتعبير عنها. فهل يشكّ هؤلاء في مدى السخط الشعبي على الأدوار الداخلية والإقليمية لميليشيا غير شرعية ولمسؤولية تصرّفاتها، بشكل رئيسي عن الوصول إلى حال الانهيار التي يعيشها البلد. إلّا إذا كانت عبقرية هذه المجموعة تساوي بشكل تامّ، بين خطأ أو صواب التقدير السياسي لكارلوس إدّه أو فارس سعَيد أو فؤاد السنيورة، وبين ميليشيا تقاتل في سوريا واليمن وتقتل رئيس حكومة ووزراء ونوّاباً وإعلاميّين، وتنخرط في أحد أوسع أنشطة تجارة المخدِّرات في العالم، وعمليات تبييض أموال معقّدة، كشف عنها التوقيف الأخير لمحمد بزّي في رومانيا، والعقوبات التي استهدفت، فريق عمل ناظم أحمد، المصنّف كأحد أكبر مموّلي الميليشيا. حينها نكون أمام حالة مرضية لا سياسية، باتت بسلوكها وخياراتها أخطر على البلاد من الحزب نفسه.
إنّ الحدّ الأدنى من النزاهة السياسية يتطلّب أن لا ينسى هؤلاء أنّه وخلال انتفاضة عام 2019، التي اجتمع فيها مواطنون لبنانيون من مختلف الطوائف والأديان والمناطق في عرض غير مسبوق للوحدة، مطالبين بتنظيف الحياة السياسية من السلاح والفساد، كان الحزب في طليعة من مارسوا الترهيب والقمع والاعتداء ضدّ المتظاهرين، بلا هوادة، وكان زعيم الميليشيا صاحب أعلى صوت في شنّ حملات التشهير ضدّهم. فعلى أيّ أسس يتبجّح هؤلاء الآن برفض الاصطفاف ويمارسون الحرص المرضيّ على المساواة بين غير المتساوين لا في القدرة ولا في النيّة ولا في الفعل؟
شياطين مفيدين
لا تُفسح الواقعية السياسية المجال لمثل هذه السذاجة. إنّ ما يقوم به هؤلاء النواب التسعة هو أداء يجعل منهم الأدوات ذاتها التي يستخدمها الحزب لتعزيز أجندته. مجرّد “شياطين مفيدين” يخدمون، عن غير قصد، مصالح جماعة أثبتت باستمرار أنّها تضرّ باستقرار لبنان، لأنّ هامش التناقض، ببساطة شديدة، بين مصالحها وبين مصالح لبنان العامّة أكبر بما لا يُقاس من هوامش التناقض بين لبنان وأيّ جماعة سياسية أخرى.
إقرأ أيضاً: الحزبُ مُناوراً بالسلاح: العودة إلى لبنان؟
عدم التوقيع لم يكن خطأً سياسياً وحسب بل خطيئة كارثية، لأنّها خلقت تصوّراً خاطئاً أنّ ميليشيا الحزب تحظى بحجم متضخّم من تسامح اللبنانيين وتفهّمهم لها، في لحظة تتّجه فيها المنطقة لمزيد من تطوير معادلات الاستقرار والازدهار وتعزيز فكرة الدولة ومكافحة الانهيار الناتج عن الميليشيات أو الاستثمار فيها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@