يروي لي صديق كان يشغل منصباً دبلوماسياً في بلاده أنّه كان في زيارة لصربيا قبل سنوات ولاحظ مقدار الحنين للزمن الجميل المندثر، الذي عبّر عنه رجال الأمن والمخابرات الذين كانوا في استقباله. وهم اشتكوا من القيود القانونية والسياسية التي باتت تكبّل أياديهم هذه الأيام، فيما كانوا أسياداً لهم مطلق السلطات أيّام العهد الشيوعي. وفي ثنايا الشكوى مقتٌ للديمقراطية والغرب وهُيامٌ دائم بروسيا الأمّ.
الواضح أنّ تلك المشاعر ليست حكراً على رجال السلطة، بل باتت لها حاضنة شعبية قومية حاقدة على تحالف غربي قادته الولايات المتحدة في التسعينيّات، أنزل هزيمة بيوغسلافيا الدولة، وفكّك أضلاعها، وجعلها دولاً مستقلّة ذات سيادة بعيدة عن بلغراد.
لا يريد الغرب التورّط في مستنقع يعيد فتح ملفّ يوغسلافيا الذي خُيِّل له أنّه أُغلق وبات من الماضي. ولا يريد عسكرة نزاع توحي صربيا التي حشدت قوّاتها على الحدود مع كوسوفو أنّها لا تستبعد حصوله
من تلك الأضلاع كوسوفو ذات الأغلبية الألبانية المسلمة التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عام 2008. جاء ذلك بعدما تدخّل حلف شمالي الأطلسي عام 1999 بنيرانه الجبّارة ضدّ صربيا، موفّراً مدداً لـ”جيش تحرير كوسوفو”، فاضطرّت القوات الصربية إلى الانسحاب من هناك. بدا أنّ أمر الاستقلال جاء بالقوّة القهرية الغربية، فلم تهضم صربيا الأمر الواقع، وما زالت وروسيا تعتبران كوسوفو جزءاً من الأراضي الصربية، ولم يقبلا حتى الآن التحوُّل الهويّاتي الغربي لبريشتينا (عاصمة كوسوفو) بعيداً جداً عن إرادة بلغراد.
منهج هتلر.. والصهيونية
لا تبتكر صربيا منهجاً خلّاقاً جديداً في تعاملها مع عِقدها التاريخية وحنينها إلى استعادة أمجاد نُزِعت منها. لجأ أدولف هتلر إلى ذلك التكتيك في تنصيب نفسه وصيّاً على مصير “القوميّات الألمانية” أينما وجدت، وجعلها عذراً لتدخُّل قوّاته داخل بلدان أوروبية بدعوى حماية الأقلّيات الألمانية “المضطهَدة”. ورفعت الصهيونية منذ أعراضها الأولى أمر حماية اليهود في العالم واجترحت فكرة سوداء لحمايتهم داخل “وطن قومي” في فلسطين حتى لو أدّى ذلك إلى مأساة فلسطينية لا تنتهي. وفعلها فلاديمير بوتين حين راح ينشر قوات روسيا لردّ أخطار مفترضة تتعرّض لها أقليّات روسية في العالم، سواء في جورجيا أو أوكرانيا أو مولدوفا أو في أيّ دول أخرى بعيدة أو قريبة.
أن لا يقبل صرب كوسوفو بما آلت إليه حالهم بعدما صاروا أقلّية داخل “الأمّة الصربية الكبرى”، فذلك أمر مفهوم ويمكن قراءته ودراسته، خصوصاً حين لا يُنتظر من دولة كوسوفو المستقلّة الفتيّة أن تحلّ مشاكل حساسيّة الأقلّيات، ولا سيّما عندما تكون صربيّة، فيما دول كبرى عريقة امتلكت تاريخاً عتيقاً ودساتير حديثة عجزت بدورها عن حلّ تلك الإشكالية الكبرى. غير أنّ أمر التوتّر والصدام بين صرب كوسوفو وحكومتها لا يمكن أن يخرج عن سياق جيوستراتيجي خبيث.
لقد أوقعت الصدامات الأخيرة التي خاضها محتجّون صرب عشرات الجرحى في صفوف الشرطة وجنود تابعين للناتو. ويعود الأمر إلى تبرّم الأقليّة الصربية (6 في المئة) ومقاطعتها الانتخابات المحلّية في ألبانيا، وهو ما سهّل آليّاً فوز ألبان بدلاً من الصرب في بلديات شمال البلاد التي كان الصرب يتولّون إدارتها. وحين تقدّم رؤساء البلديات الفائزون لتولّي مهامّهم في تلك البلديات رفض الصرب الأمر وانفجرت القلاقل في تلك المنطقة.
أميركا تتخلّى عن كوسوفو
يكتشف الكوسوفيّون أنّ الزمن قد تغيّر، وأنّ بلدهم تفصيل في لعبة الأمم، وأنّ الغرب الحنون قد يضحّي بهم إذا ما تطلّبت حساباته ومصالحه ذلك. لم تلقَ ألبانيا الدعم المتوقّع والمنتظر من الولايات المتحدة، لا بل ما صدر عن واشنطن كان صادماً لجهة إلقاء اللوم على بريشتينا والعتب على إدارتها للأزمة. حتى إنّ السفير الأميركي المعتمَد لدى كوسوفو أدلى بتصريح اتّهامي مباشر لرئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، حمّله فيه المسؤولية عن الحوادث، واعتبر أنّ كورتي تجنّب الوفاء بالتزاماته، معلناً عقوبةً رمزيةً لكوسوفو تحرمها من المشاركة في مناورات الناتو.
لا يريد الأوروبيون صراعاً جديداً في القارّة يُضاف إلى الصراع الكبير الجاري في أوكرانيا. وهذا ما يفسّر دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز في الأول من حزيران الجاري، إلى إجراء انتخابات جديدة في البلديّات المتنازَع عليها في شمال كوسوفو
تكتشف كوسوفو أيضاً أنّ اندفاعها المفرط لإرضاء واشنطن خلال السنوات الأخيرة لم يكن كافياً: ذهبت إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل وإقامة سفارتها في القدس، وإدراج الحزب على لوائح الإرهاب، والانحياز إلى العقوبات الأميركية ضدّ روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، واستضافة اللاجئين الأفغان الذين تدرس الولايات المتحدة ملفّاتهم لبتّ مصير اللجوء إليها. كلّ ذلك لم يشفع للكوسوفيّين ولم توفّر واشنطن لهم ما كانوا يأملونه من حماية ورعاية وتفهّم غربي لقضيّتهم.
بالمقابل لا تريد الولايات المتحدة أن يسمح هذا التوتّر باستفزاز صربيا إلى درجة انشقاقها عن مسار غربي وإجهار انحيازها إلى موسكو. صحيح أنّ صربيا تتمتّع بعلاقات متقدّمة مع روسيا، لكنّها، وهي الدولة المرشّحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، تسعى إلى إمساك العصا من الوسط. فقد تعاملت حكومة بلغراد بحذر مع الأزمة في أوكرانيا من خلال إدانة روسيا رسمياً في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه الامتناع عن فرض أيّ عقوبات على موسكو وسط دعم العديد من الصرب لحرب الكرملين.
أوروبا على الحياد
لا يريد الأوروبيون صراعاً جديداً في القارّة يُضاف إلى الصراع الكبير الجاري في أوكرانيا. وهذا ما يفسّر دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز في الأول من حزيران الجاري، إلى إجراء انتخابات جديدة في البلديّات المتنازَع عليها في شمال كوسوفو وإلى ضرورة “مشاركة الصرب في هذه الانتخابات بشكل واضح”، وفق تصريح ماكرون.
وكان الزعيمان قد نجحا في 2 حزيران في جمع رئيسة كوسوفو فيوسا عثماني مع رئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش، بحضورهما وحضور مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على هامش قمّة الجماعة السياسية الأوروبية في مولدوفا.
إقرأ أيضاً: معالم حرب باردة في أوكرانيا
باختصار، لا يريد الغرب التورّط في مستنقع يعيد فتح ملفّ يوغسلافيا الذي خُيِّل له أنّه أُغلق وبات من الماضي. ولا يريد عسكرة نزاع توحي صربيا التي حشدت قوّاتها على الحدود مع كوسوفو أنّها لا تستبعد حصوله. بالمقابل يوجد في موسكو من يبتسم كثيراً ويرحّب بما يفعله “الأخوة الصرب” في كوسوفو. فحين هاجم المحتجّون جنود الناتو كانوا يحملون شعار “z”، وهو الشعار الذي وسم الدبابات الروسيّة التي اقتحمت حدود أوكرانيا وتوغّلت في حرب ما زلنا نشهد فصولها.
وفق ذلك سيكون عصيّاً تصديق أن لا روائح روسيّة للطبخ الصربي في كوسوفو داخل أوروبا. تعرف واشنطن ذلك ولا تريد، وهي التي تُبقي عيناً في كلّ سياساتها على الصين حتى في الصراع مع روسيا، أن يساهم “سوء تقدير” الحاكم في بريشتينا في أن يصدّق بوتين أنّ كوسوفو باتت جبهة من جبهات حربه في أوكرانيا لإعادة قراءة التاريخ وإعادته إلى ما قبل الزمن الذي فقدت فيه موسكو اتحادها السوفيتي المجيد.