معالم حرب باردة في أوكرانيا

مدة القراءة 7 د

توقّف القتال في باخموت في 21/5/2023 بعد 224 يوماً من القتال. لم تكن تصريحات المسؤولين في كييف كافية لتغيير حقيقة سقوط المدينة بيد مجموعة “فاغنر”، وليست التصريحات التي أطلقها قائد المجموعة “يفغيني بريغوجين” عن تقاعس موسكو عن إمداده بالذخيرة سوى محاولات لتبرير سقوط أكثر من 10,000 من المقاتلين/السجناء في ساحات المدينة وعلى خطوطها.
دخلت الحرب في أوكرانيا بعد باخموت مرحلة جديدة سماتها انحسار العمليات الميدانية البرّية والاستخدام الكثيف للمسيّرات، ونقل المعركة إلى داخل روسيا حتى مشارف موسكو. لقد فاقت الهجمات بالمسيّرات الروسية على كييف تلك الأوكرانية لجهة الكثافة والقدرة التدميرية، وترافقت مع هجمات صاروخية على البنى التحتية والأهداف الأوكرانية العالية القيمة
(High Value Target)، وهو ما يجعل من المنطقي الاستنتاج أنّ الهجوم الأوكراني المضادّ قد أُسقط من جدول الخيارات العسكرية، وأنّ الرهان انتقل إلى رصد نتائج نقل المعركة إلى الداخل الروسي وما يمكن أن تحدثه من ضغوط على موسكو لانتزاع قرار بالانسحاب من الأراضي الأوكرانية، وربّما لمحاولة وضع معادلة جديدة عنوانها: “كييف مقابل موسكو”.

هناك مشكلة كبيرة تواجه بوتين حاليّاً تتمثّل في عدم سيطرة قوّاته على الأراضي التي ضمّها إلى روسيا، وهذا يعني أنّه لن يستطيع القيام بأيّ تسوية ما لم يطرد الأوكرانيين منها

ما يمكن تسجيله في إطار حرب المسيّرات هو إصرار كييف على عدم مسؤوليّتها عن الهجمات على الداخل الروسي على الرغم من المجاهرة بقناعتها أنّ هذه الهجمات ستتضاعف لتشمل مناطق إضافية، هذا بالإضافة إلى تأكيد الولايات المتّحدة على تقييدات الدعم الأميركي لكييف بحصر استخدامه في مجال الدفاع وعدم تجاوز الحدود الروسية.

تصعيد أوروبي ملحوظ
بالمقابل تشهد المواقف الأوروبية تصعيداً ملحوظاً. فبعد تأكيد قمّة “هيروشيما” الأخيرة لمجموعة دول السبع، التي أنهت أعمالها في 2 أيار المنصرم، على مواصلة الدعم لأوكرانيا، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منتدى “غلوبسيك” في العاصمة السلوفاكية “براتيسلافا” في 31 أيار جملة شعارات عن الوحدة ودعم أوكرانيا والسيادة الأوروبية، و”إعادة تسليح” أوروبا لمواجهة التّحدّيات الأمنيّة الجديدة ومدّها بقدرات دفاعية جوّية، معتبراً أنّ “أوروبا الدفاعية التي تمثّل الركيزة الأوروبية في حلف شمال الأطلسي هي أمر حتمي”. وفي سياق سعيه إلى طمأنة نظرائه في أوروبا الشرقية، الذين يخشون حصول تنازلات لصالح روسيا، طالب ماكرون بضمانات أمنيّة “ملموسة وموثوقة” لأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، مؤكّداً أنّ هذا سيكون موضوع نقاشات جماعية في الأسابيع المقبلة في قمّة حلف الناتو التي ستُعقد في “فيلنيوس” عاصمة ليتوانيا بتاريخ 11 و12 تموز المقبل. تأتي مواقف ماكرون متّسقة مع تصريح وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي الذي اعتبر أنّ لأوكرانيا الحقّ في “استخدام القوّة” خارج حدودها، في إشارة إلى هجوم المسيّرات على العاصمة الروسيّة.
من جهة أخرى، تشير “حرب السفارات” بين ألمانيا وروسيا إلى فصل جديد من التوتّر يستعيد مشهد الانقسام بين شرق أوروبا وغربها في حقبة الحرب الباردة. فقد حظرت الحكومة الألمانية يوم الأربعاء (31 أيار 2023) على روسيا تشغيل أربع قنصليّات عامّة في البلاد، بحيث يقتصر نشاطها الدبلوماسي على سفارتها في برلين بالإضافة إلى قنصلية واحدة. وبالمقابل قرّرت الحكومة الألمانية إغلاق القنصليّات العامّة الألمانية في كاليننغراد ويكاترينغبورغ ونوفوسيبريسك، والإبقاء على الحدّ الأدنى من الوسطاء الثقافيين في المدارس الألمانية ومعاهد “غوته”، بحيث يتمّ الإبقاء على السفارة الألمانية في موسكو والقنصلية العامّة في سانت بطرسبورغ.

موسكو والتنازع بين مدرستين
يقول نائب مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية الشاملة ديمتري سوسلوف لصحيفة “فزغلياد” الروسية في 26/5/2023 إنّ في الغرب مدرستين فكريّتين تتعلّقان بالسياسة الروسية، “المدرسة الواقعية” التي تؤمن بأنّ الإجراءات العدوانية لروسيا أتت ردّاً على توسّع الناتو وتجاهل الغرب للمصالح الأمنيّة لروسيا، وهناك بالمقابل “المدرسة الليبرالية” التي تعتقد أنّ موسكو تسعى إلى إحياء الإمبراطورية الروسية واستعادة مجال نفوذها، وإذا لم يوقَف تقدُّم روسيا في أوكرانيا فإنّها ستواصل التحرّك نحو دول البلطيق ومولدوفا. وبناءً على ذلك، يبدو جليّاً أنّ كلتا المدرستين تلتقيان على فكرة أنّ روسيا تريد تغيير القواعد التي نشأت بعد الحرب الباردة.

ما بين الرهان النظري على تفكيك روسيا من الداخل والمضيّ قُدماً في تغذية الحرب في أوكرانيا، تستمرّ المواجهة المباشرة لمنع بوتين من تحقيق أيّ إنجاز إقليمي

واقعية “سوسلوف” في قراءة تعاطي الفكر الغربي مع موسكو يؤكّدها ما أوردته الكاتبة “Anchal Vohra” في مجلّة Foreign Policy في 17 نيسان 2023 عن إعلان “لجنة الأمن والتعاون في أوروبا”، وهي وكالة حكومية أميركية مستقلّة تضمّ أعضاء من مجلس النواب الأميركي ومجلس الشيوخ ووزارات الدفاع والولاية والتجارة، أنّ إنهاء استعمار روسيا يجب أن يكون “هدفاً أخلاقياً واستراتيجياً”. وقد أشارت في المقال عينه إلى اجتماع عقده “منتدى الأمم الحرّة لما بعد روسيا” في البرلمان الأوروبي في بروكسل، وإصدار خريطة لروسيا مقسّمة إلى 41 دولة مختلفة في عالم ما بعد بوتين.
أضافت الكاتبة أنّ “المحلّلين الغربيين يدفعون بشكل متزايد إلى تبنّي النظرية القائلة بأنّ التفكّك الروسي آتٍ وأنّ الغرب يجب ألّا يستعدّ فقط لإدارة أيّ تداعيات محتملة لأيّ حروب أهلية، لكن عليه أيضاً الاستفادة من هذا الانقسام في جذب الدول الغنيّة بالموارد التي ستنشأ إثر هذا التفكّك إلى نطاقه. وهم يقرّون بأنّ الغرب كان متصدّعاً وفشل في الاستفادة الكاملة من الفرصة العظيمة التي قدّمها انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ويجب عليه الآن وضع استراتيجية لإنهاء التهديد الروسي بشكل نهائي بدلاً من توفير مخرج لبوتين”.

تفكيك روسيا
بالمقابل، اعتبر الكاتب الأميركي Thomas Friedman في مقال له نُشر في صحيفة ” ” New York Times بتاريخ 1/10/2022 أنّ على القوى الغربية أن تتعامل بصرامة وذكاء مع التطوّرات في أوكرانيا، مشيراً إلى أنّ الإجراءات التي اتّخذها الكرملين تذهب في اتجاه جعل روسيا “كوريا شمالية كبرى”.
وتابع قائلاً إنّ “هناك مشكلة كبيرة تواجه بوتين حاليّاً تتمثّل في عدم سيطرة قوّاته على الأراضي التي ضمّها إلى روسيا، وهذا يعني أنّه لن يستطيع القيام بأيّ تسوية ما لم يطرد الأوكرانيين منها ويوقف كلّ هجماتهم، علماً بأنّ جيشه منهك في أوكرانيا”.|أضاف فريدمان: “يبدو أنّ بوتين لم يترك للجميع من حلّ سوى البحث عن كيفية التعايش مع “كوريا الشمالية الروسيّة”، ولذا الزعماء الغربيون ملزمون بمعرفة متى “ينحرفون” عن الطريق لئلّا يحدث اصطدام مع “السائق” القادم من الجهة المقابلة (بوتين)، ومتى يتخلّون عن “بعض الكرامة حتى “ينحرف” ولا يحدث الاصطدام”.
يبالغ المراهنون على تفكيك روسيا في افتراضهم أنّ الأقلّيات في البلاد ستساعد تلقائياً في إنشاء روسيا أكثر انسجاماً مع المعايير الغربية، وأنّ الأقلّيات العرقية هناك هي أكثر ميلاً نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم “الرشيد” والليبرالية الموالية للغرب من الأغلبية العرقية الروسية.

إقرأ أيضاً: سُنّة لبنان وإردوغان… والبحث عن بطل

وما بين الرهان النظري على تفكيك روسيا من الداخل والمضيّ قُدماً في تغذية الحرب في أوكرانيا، تستمرّ المواجهة المباشرة لمنع بوتين من تحقيق أيّ إنجاز إقليمي، ويذهب الغرب ومعه أوكرانيا إلى تثبيت خطوط المواجهة أو الى عقد صفقة مع بوتين تكرّس الحرب الباردة نموذجاً وحيداً يمكن اعتماده في كلّ مرّة يُستشعر أيّ صعود لقوّة اقتصادية أو عسكرية.

* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…