لا يمكن إلا أن نتأمّل مليّاً مؤتمر “طريق التنمية” أو “القناة الجافّة” الذي دعت إليه الحكومة العراقية وانعقد في بغداد في 27 أيار الماضي. ولئن حضر المؤتمر وزراء نقل وممثّلون عن 10 دول مجاورة للعراق، فإنّ الحدث يتجاوز ما هو تنمية واقتصاد وشبكات نقل إلى مستوى لا يغيّر خرائط النقل في المنطقة فقط، بل يقلب خطوط النقل في العالم.
مشروع “القناة الجافّة” قديم تداولته حقب سابقة وتكلّم عنه الإعلام وخبراء الاقتصاد منذ سنوات من ضمن الوعود التي عهدها أهل العراق ولم ترَ النور. وحتى حين تمّت إثارة المشروع على جدول أعمال زيارة رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني لتركيا في آذار الماضي، وتأكيده هو والرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ البلدين يعملان على الدفع نحو تنفيذه، لم يظهر أنّ استثناءً جيوستراتيجيّاً يوحي بذلك. لكنّ شيئاً ما يحدث ويُظهر أعراض ولادة غريبة.
لا تكمن الغرابة في ضخامة المشروع الذي سيكلّف 17 مليار دولار، ولا في تفاصيله، بدءاً من تكملة بناء ميناء الفاو، مروراً بشقّ الطريق البرّي والمدّ السككيّ لمسافة تتجاوز 1000 كلم، وانتهاء بإقامة المحطّات والمدن والمناطق الصناعية والبنى التحتية المكمّلة، بل في أنّ هذا المشروع عملاق في مآلاته من حيث لعب العراق وظيفة جديدة وتحوُّله معبراً اقتصادياً هائلاً ما بين الشرق والغرب.
يكمن الاستثناء أيضاً في أنّ مشروعاً كهذا يتطلّب استقراراً سياسياً وأمنيّاً داخلياً يوفّر بيئة حاضنة لورشة هائلة سيكون لها طابع إقليمي ودولي. وهو إقليمي لأنّ 10 دول مجاورة حضرت المؤتمر ومعنيّة بتصدير أو استيراد أو تمرير البضائع والسلع. وهو دولي لأنّه يعِد بأن يكون معبر البضائع والسلع من أقصى الشرق إلى أوروبا مروراً بالمنطقة.
فكرة المشروع
يقوم المشروع على فكرة عبور البضائع عبر طريق برّي وخطّ قطارات من البصرة في جنوب العراق، ولا سيّما من ميناء الفاو، باتجاه تركيا في شمال البلاد ومنها إلى أوروبا. والمفترض أن تستغرق الرحلة بواسطة الشاحنات حوالي 10-12 ساعة، بينما تستغرق رحلة القطارات أقلّ من ذلك داخل الأراضي العراقية.
تعوّل “القناة الجافّة” كثيراً على نجاح الاتفاق السعودي الإيراني في إنتاج بيئة توافقٍ وتفاهم وتعاون
تتحدّث الدراسات عن أنّ استخدام “القناة الجافّة”، أي المسلك البرّي للصادرات والواردات، سيؤدّي إلى الاستغناء عن الطرق البحريّة التقليدية التي تدور حول رأس الرجاء الصالح ثمّ تمرّ عبر قناة السويس، والتي تستغرق رحلاتها حوالي 5 أسابيع، وإلى استخدام بدلاً منها الممرّ العراقي الذي تستغرق رحلته حوالي أسبوعين من المنبع إلى المصدر، إضافة إلى انخفاض حادّ في تكاليف النقل بين الطريقين.
على هذا لا يتعلّق الأمر بتعاون إقليمي لتطوير وتسهيل طرق النقل والمواصلات، بل بمدى توفّر بيئة دولية هذه المرّة يمكنها أن تهضم مشروعاً من شأنه قلب ما هو معتمَد في طرق النقل بين الشرق والغرب، ولا سيّما في ما يتعلّق بالطاقة المصدّرة من الخليج صوب أوروبا.
وفيما يدور همس عن مصير المنافسة التي قد يثيرها المشروع العراقي، وخصوصاً الطموحات بشأن مستقبل ميناء الفاو، مع موانئ المنطقة، ولا سيّما في الكويت والإمارات (جبل علي)، وعن مستقبل قناة السويس في وقت كان العراق والأردن ومصر قد شكّلوا ثلاثياً إقليمياً تحت مسمّى مشروع “الشام الجديد”، فإنّ انسيابية مشروع بهذا الحجم والطموح تتطلّب استقراراً سياسياً إقليمياً بين دول المنطقة يبدو حالياً عصيّ المنال. وإذ يثير المشروع همساً بشأن تنافسه الموجع مع قناة السويس وموانئ الجوار ومع الطرق الإيرانية نحو بحر قزوين وأخرى صوب البحر المتوسط، فما ضمانة أن يبقى الهمس همساً؟
القناة الجافة واتفاق بكين
تعوّل “القناة الجافّة” كثيراً على نجاح الاتفاق السعودي الإيراني في إنتاج بيئة توافقٍ وتفاهم وتعاون. وتعوّل على التقارب الذي حصل أخيراً بين دمشق والمجموعة العربية لدعم آمال إنجاز تسوية سياسية تحمل استقراراً أمنيّاً بات ضروريّاً لضمان أمن تلك القناة. وتعوّل أيضاً على استمرار مرحلة التفاهمات التركيّة العربية منذ المصالحة مع السعودية والإمارات، ومروراً بالعمل عليها مع مصر، وانتهاء باستكشاف جدّي لاحتمالاتها مع دمشق، وهو ما يوفّر منطقاً سياسياً وجيوستراتيجياً لطريق نحو أوروبا تكون تركيا حجر زاوية داخلها.
يثير هذا المشروع سجالاً لا ينتهي بشأن مقاصده “المؤامراتيّة” التي قام عليها ودوره داخل صراع الشرق والغرب. ففي العراق من يحذّر من هذا المشروع ويشكّك بجدواه الاقتصادية ويؤكّد أنّه سيحوّل البلد إلى ممرّ لعبور منتجات الآخرين من دون أن يعظّم من البنى الاقتصادية الإنتاجية للبلد. وفي اتّهامات أخرى أنّ المشروع مدعوم من الولايات المتحدة والمنظومة الغربية ليكون نقيضاً لـ”طريق الحرير” الذي تخطّط له الصين، وأنّهما وعدتا العراق بجنّات من الاستثمارات المجزية من أجله.
على الرغم ممّا أصدره الخبراء من أرقام هندسية واقتصادية وماليّة، وما وعد به رئيس الحكومة العراقي من وفورات وأرباح وازدهار لبلاده وبلدان المنطقة، إلا أنّ “العرس” يجري من دون أيّ ضمانات بشأن توافر السقوف الإقليمية والدولية لحماية المشروع، أو تأكيدات بشأن تجنيب العراق نهائياً اضطرابات تسبّبها الميليشيات والصراعات، أو توفير معطيات تدعم نهائية خيار “تصفير المشاكل” في المنطقة.
إقرأ أيضاً: تركيا – العراق: هل تعود “المياه” إلى مجاريها؟
لا ريب أنّ بغداد هي أكثر الأطراف إدراكاً لأهميّة عامل الأمن والاستقرار لمشروعها الطموح. وهي الأكثر وعياً لصعوبة ذلك بسبب ما يختزنه واقع العراق وتأثّره بما يحدث من تطوّرات في دول الجوار وما يستجدّ في النظام العالمي من تحوّلات قد تتداعى على كلّ تفصيل وجهد لشقّ “القناة الجافّة”. صحيح أنّ رئيس الوزراء العراقي قال إنّ المشروع هو حصيلة تباحث قديم-جديد مع قادة الدول المجاورة، غير أنّ قيام المشاريع العملاقة عرضة لتحوّلات قد تتجاوز أيّ محادثات وتفاهمات.
يحقّ للعراق وربّما بات ضرورة أن يُطلق مشاريع طموحة تعيد إنعاش اقتصاده. ويحقّ لرئيس الوزراء أن يؤمن بنظرية في الاقتصاد تقول إنّ المشاريع التنموية بين الدول تضطرّها إلى الجنوح للسلم والوفاق، وهي بالنهاية نظرية قابلة للنقاش. سبق للمنطقة أن عوّلت في مشاريعها الاقتصادية على سلم إقليميّ سيأتي به “مؤتمر مدريد” (1991) ثمّ اتفاقات أوسلو (1993)، لكن لم يأتِ. وفيما يروق للعراقيين تذكّر خطّ بغداد-برلين للسكك الحديد في بدايات القرن الماضي، فإنّ حكاية شقّ هذا الخطّ بالذات هو درس في التاريخ بشأن ما يلحق بالخطوط الجيوستراتيجية الدولية من تحوّلات بين فكرة المشروع واكتمال تحقّقه.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@