التقت ردود الفعل التركية والعراقية عند وصف زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لأنقرة قبل أيام بأنّها كانت مثمرة وناجحة بالنسبة للجانبين. ظهرت إلى العلن، خلال اللقاءات والتصريحات أمام العدسات، نبرة وأسلوب مغايران في ما يتّصل بملفّات الخلاف والتوتّر الكثيرة بين البلدين. هذه التفاهمات لم يسبق أن رأيناها في الحوارات السابقة بين أنقرة وبغداد على الرغم من كلّ الحماسة والاندفاع لدى الحكومات السابقة.
يُراد من العلاقات التجارية أن تدخل على الخطّ لامتصاص التوتّر الحاصل في العلاقات الأمنية والسياسية وموضوع المياه بين البلدين، فهل يتحقّق ذلك؟
هل تقتنع أنقرة بتسريع خطوات التنسيق والتعاون المائي وبحث سبل تأمين احتياجات ومتطلّبات العراق من هذه المادّة الحياتية إلى جانب تفعيل مشاريع سدود وتطوير خدمات مشتركة في خطط الريّ وبناء السدود والاستفادة من التجربة التركية المائية؟
التقت ردود الفعل التركية والعراقية عند وصف زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لأنقرة قبل أيام بأنّها كانت مثمرة وناجحة بالنسبة للجانبين
وهل ترضي الجانبَ التركي العروضُ الاستراتيجية البعد التي حملها السوداني في جعبته، وبينها رفع أرقام التبادل التجاري التي وصلت إلى 24 مليار دولار في العام المنصرم لصالح الجانب التركي إلى 30 ملياراً خلال السنوات الثلاث المقبلة؟ وهل تقتنع تركيا بالشراكة في “خط الحرير الجديد” أو مشروع الفاو الذي تريده بغداد أن يتحوّل إلى إنجاز إقليمي – دولي جامع لخطط واستثمارات تجارية إنمائية إعمارية في الوقت نفسه؟ وما هو البديل الذي ستقدّمه تركيا مقابل ذلك، سواء في ملفّ المياه أو إنهاء الوجود العسكري التركي في شمال العراق الذي يتطلّع إليه السوداني أيضاً؟
العرب إلى جانب العراق
يستفيد رئيس الوزراء العراقي من الدعم السياسي الداخلي ومن سياسة الانفتاح الإقليمي ووقوف العواصم العربية إلى جانب بلاده في هذه المرحلة. يريد أن يجيّر ذلك إلى مكاسب سياسية وأمنيّة واقتصادية مع الخارج لصالح العراق أولاً، وأن يستثمر في هذه الإنجازات على المستوى السياسي والشعبي لتحصين موقعه ونفوذه في الداخل ثانياً. ربّما صدر قرار البدء بعلاقة جديدة بين أنقرة وبغداد، لكنّ قضايا عالقة أخرى كانت لها حصتها في حوار الشدّ والجذب بين الطرفين وتحتاج إلى بذل جهد حقيقي وكبير:
– هناك أولاً الوجود العسكري التركي في شمال العراق بهدف محاربة مجموعات “حزب العمال الكردستاني” وفلوله التي تستفيد من الفراغ الأمني والدعم المحلي لتنشط على خط قنديل – سنجار، الحدودي بين البلدين.
– هناك ثانياً المواجهة الدائمة في ملف مياه نهرَي دجلة والفرات وحصص الجانب العراقي منهما وزيادة تركيا لخطط إنشاء السدود والاستفادة الواسعة من النهرين في إطار مشروع “غاب” الإنمائي في مدن جنوب شرق البلاد.
– بعد ذلك تأتي علاقة أنقرة بإربيل والتنسيق الاقتصادي والسياسي والأمني بين الطرفين الذي يقلق بغداد ويغضبها أحياناً لأنّه يتمّ على حساب دورها السياسي والدستوري، كما تقول.
– ثمّ هناك مسألة تصدير نفط إقليم كردستان العراق عبر الأراضي التركية إلى الخارج، ورفض الحكومة الاتحادية في بغداد لهذه الخطوة، التي دفعتها إلى التوجّه إلى التحكيم الدولي وكسب القضية وإلزام الطرفين بمنع توريد النفط الخام، الذي وصلت كميّاته اليومية إلى 450 ألف برميل يومياً، من كركوك إلى ميناء جيهان التركي بمعزل عن بغداد ومن دون موافقتها.
لا أحد في العراق يحتاج إلى نصيحة السفيرة الأميركية إليانا رومانوسكي ودعوتها جميع مَن وصفتهم بـ”المستفيدين من مياه دجلة والفرات”، إلى اتخاذ إجراء عاجل للحفاظ على مصادر المياه في “هذه الأوقات الصعبة”. فملفّ المياه بالنسبة للسوداني مهمّ، ولا سيما أنّه أعدّ استراتيجية وخطط إنماء مائي بعيدة المدى تشمل العقود الثلاثة المقبلة. وكانت البداية في إقناع الأتراك بضخّ كميات إضافية من مياه نهر دجلة، ملوّحاً بأنّ المرحلة المقبلة ستشمل خطط تعزيز التخزين المائي وتقليل الهدر وتنظيم استهلاك المياه واستخدامها بالشكل الصحيح.
ما يقوله السوداني يختلف كلياً عمّا سمعناه ورأيناه في السابق من القيادات السياسية العراقية التي صعّدت وهدّدت وحاولت تحريك دول المنطقة والمؤسسات الأممية ضدّ تركيا. فهو يتحدّث عن “العمل على نيل ما يحقّ للعراق من حصص في المياه عبر الحوارات وعقد الاتفاقيات”.
يؤكّد السوداني أنّ زيارته لتركيا “تكتسب أهمية خاصة، وتحديداً في هذا التوقيت المتزامن مع التطورات الإيجابية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط”
الرئيس رشيد يُساند السوداني
ما يشجّع أكثر هو أنّه بعد يومين فقط على زيارة السوداني التقى الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، على هامش وجوده في نيويورك للمشاركة في قمّة المياه والتنمية، وفداً تركيّاً برئاسة وزير الزراعة التركي وحيد كيريشجي لبحث ملف المياه. وأعلن رشيد أنّ زيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي لأنقرة مهّدت لاتفاقات استراتيجية بين العراق وتركيا ستكرّس جهود البلدين في تعزيز التعاون الثنائي.
من الواضح تماماً أنّ زيارة السوداني لأنقرة أفضت إلى تفاهمات جديدة ستفتح الأبواب أمام تعزيز العلاقات التجارية بعدما سمعنا أنّ مشروع ميناء الفاو أو “طريق التنمية”، أي القناة الجافّة التي تتكوّن من طريق برّي وسكك حديد تربط العراق بتركيا وتمتدّ من البصرة إلى الحدود التركية، سيساهم في إنعاش التجارة بين البلدين. ولن يكون الهدف ثنائياً فقط من خلال إنشاء خطوط طريق سريع وخطوط للسكك الحديدية تمرّ عبر الديوانية والنجف وكربلاء وبغداد والموصل وتمتدّ إلى الأراضي التركية… بل سيكون إقليمياً ودولياً أيضاً. إذ سيربط الشرق بالغرب، وسيكون ممرّاً عالمياً لنقل البضائع والطاقة، كما تصفه القيادات العراقية.
معضلة “العمّال الكردستاني”
كثر هم من يعرفون أنّ ملف شمال العراق بشقّه الأمني يظلّ الأصعب والأكثر تعقيداً. ليس بسبب تشدّد أنقرة في رفض سحب قواتها قبل حسم الوجود المسلّح لمجموعات “حزب العمال” الذي يستغلّ الفراغ الأمني هناك لاستهداف الأراضي التركية، بل لوجود أكثر من لاعب محلي وإقليمي يهمّه تحريك هذه الورقة والتأثير فيها لضرب العلاقات التركية العراقية ولحماية مصالحه ونفوذه في المكان.
لم نسمع مثلاً الميليشيات العراقية المحسوبة على إيران، والتي أعلنت أكثر من مرّة جهوزيّتها لمحاربة القوات التركية في شمال العراق بهدف إخراجها من هناك، تعقِّب على حادثة سقوط المروحيّتين في دهوك قبل أيام ومقتل 9 عناصر من “قسد”. كانت الميليشيات الإيرانية تتحدّث عن صعوبة التعامل مع هذه المجموعات في قنديل بسبب وعورة الجبال. وما يجري هو تحريك المروحيّات والتنقّل جوّاً داخل الأراضي العراقية هذه المرّة.
فكيف دخلت المروحيات الأراضي العراقية؟ وبإذن ممّن؟ ما الذي كانت هذه العناصر تفعله هناك؟ ومن الذي سيتحمّل المسؤولية في الجانب العراقي؟
لم يصغِ رئيس الوزراء العراقي لدعوات أبي علي العسكري، المتحدّث باسم “كتائب حزب الله”، إلى “ضرورة إخراج القوات التركية المعتدية على الأراضي العراقية بقوة السلاح”. ولم يستمع لمطالب قيس الخزعلي، الذي يقود “عصائب أهل الحق”، بإخراج القوات التركية من العراق فوراً بقرار من البرلمان “تنفّذه فصائل المقاومة”. ولا استمع لرئيس “تحالف الفتح” الأمين العام لـ”منظمة بدر” هادي العامري، الذي طالب بـ”إغلاق الحدود وإيقاف عمل الشركات التركية في العراق”… بل قرّر السوداني الذهاب في اتجاه آخر مغاير يحمل الكثير من الواقعية والعملانية ومتطلّبات القراءة الإقليمية الجديدة في لعبة التوازنات والمعادلات المقبلة.
إقرأ أيضاً: أنقرة – القاهرة: الصور أصدق إنباء من الخبر؟
فهل تصل الأمور إلى مستوى القبول بما تريده أنقرة، وهو أن تعلن بغداد عناصر حزب العمال في شمال العراق “تنظيماً إرهابياً من الواجب التخلّص منه في إطار تحرّك عسكري مباشر بقرار من بغداد أو بتنسيق العمليات العسكرية بين الطرفين”، على الرغم من صعوبة خيار من هذا النوع سيكون أوّل من يعارضه إيران والمحسوبين عليها؟
تغيّرت النبرة واللغة، وكذلك الأسلوب الذي كنّا نتابعه خلال التراشق السياسي بين تركيا والعراق في السنوات الأخيرة. يؤكّد السوداني أنّ زيارته لتركيا “تكتسب أهمية خاصة، وتحديداً في هذا التوقيت المتزامن مع التطورات الإيجابية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط”.
يقول الرئيس العراقي رشيد إنّ حوار المصالح المشتركة مع تركيا ينهي شحّ المياه. يبدو أنّ مفتاح “المياه” سيلعب دوراً كبيراً في التقريب بين تركيا والعراق في المرحلة المقبلة.