تروي هذه السلسلة من الحلقات سيرة تحوُّلات ما كان يُسمّى “ساحل النصارى” في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. وسُمّي تسمية إدارية محايدة، وهي ساحل المتن الجنوبي، بعد نشوء الدولة اللبنانية الحديثة، قبل أن يصير ضاحية بيروت الجنوبية. وبعد تسميته “النوّارة” أثناء “انتفاضة” 6 شباط 1984، سُمّي الضاحية، بلا صفة ولا إضافة، أو ضاحية حزب الله ومعقله ومربّعه الأمنيّ وبيئته اللصيقة أو الحاضنة.
تصف حلقات هذه الرواية العمران والحياة والعلاقات الاجتماعية في قرى ساحل المتن الجنوبي (الشيّاح، الغبيري، حارة حريك، المريجة، وبرج البراجنة) قبل اندثار مجتمعها الزراعي، أو الريفي البلدي والعائلي المستقرّ، وتحوُّلها إلى أحياء مكتظّة بمهاجرين من أرياف الجنوب والبقاع، وكذلك تحوُّل تلك القرى إلى مجتمع ضواحٍ لبيروت منذ خمسينيات القرن العشرين وفي أزمنة الحروب الأهلية (1975-1990) وبعدها.
المادّة الرئيسية لهذه الحلقات هي عشرات شهادات شفهية رواها أشخاص من سكّان تلك القرى الساحلية ومن أحياء ضاحية بيروت الجنوبية. وقد أنشأتُ من تلك الشهادات وسواها من المصادر رواية سوسيولوجيّة تسجيليّة عن تحوّلات المجتمع وأنماط العمران والعيش في ساحل المتن الجنوبي. وهذه الحلقة الأولى.
الشهادة الأولى
في كتابه “الضاحية الجنوبية أيّام زمان”، وهو من منشورات “دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة” في بيروت عام 1984، يروي محمد كزما المولود في برج البراجنة سنة 1914 أنّ ساحل المتن الجنوبي بين حرج “صنوبر بيروت (شمالاً) ونهر الغدير في صحراء الزيتون (الشويفات جنوباً) كان سهلاً أخضر فسيحاً. البيوت فيه قليلة متفرّقة وموزّعة بين البساتين وأشجار النخيل ورباعات الصبّير”. لكنّ هذا السهل الأخضر ببيوته القليلة المتفرّقة، تكوّنت فيه نوى (جمع نواة) عمران بلدي زراعي:
كان تحوُّل العمران البلدي الزراعي في ساحل المتن الجنوبي إلى عمران الضواحي المدنية الفوضوية، قد سبق الحرب بأكثر من عقدين من السنوات
– برج البراجنة، معظم سكّانها من الشيعة، وتقع جنوب السهل الساحلي. وهي محور مدوّنات كزما من ذكريات طفولته وشبابه بين الحربين العالميّتين.
– المريجة، متّصلة ببرج البراجنة وسكّانها مسيحيون.
– حارة حريك، معظم سكّانها مسيحيون، وتقع شمال برج البراجنة والمريجة، وحضورها طفيف في ذكريات كزما.
– الشيّاح – الغبيري، تقع قرب حرج بيروت، وهي مدار بحث فؤاد خوري “من القرية إلى الضاحية” بين الثلاثينيات والأربعينيات. نشرت جامعة شيكاغو الأميركية بالإنكليزية عام 1975.
نشأت النوى العمرانية القرويّة الأربع هذه، مع البيوت المتفرّقة والموزّعة خارجها في البساتين، حسب مصادر تاريخ جبل لبنان الاجتماعي، عن حركة الهجرات المتعاقبة من القرى الجبلية (المسيحية في معظمها) إلى المنخفضات والسهول للعمل والإقامة فيها منذ القرن السادس عشر.
في بدايات هذه الهجرات المتعاقبة أقام المهاجرون الجبليون في بيوت زراعية متواضعة، صغيرة ومتباعدة، لا يربط بينها نسيج عمراني. فهم نزلوا في الأراضي والحقول، وعاشوا على الزراعة والرعي. مع تزايد حركة الهجرة والتوطّن في السهل الساحلي، راح بعض كبار الملّاك الإقطاعيين الجبليين يتنازلون عن مساحات من أملاكهم لمزارعين وفلّاحين ورعاة يعملون في أرضهم، لقاء عملهم وإقامتهم فيها. وعن تكاثر هؤلاء الفلّاحين والرعاة المتوطّنين، وارتفاع مداخيلهم الناجمة عن أعمالهم، وخصوصاً تربية دود القزّ لصناعة الحرير في القرن الثامن عشر، بدأت تظهر نوى سكنيّة صغيرة لإقامتهم تقاربت فيها البيوت وجمعها نسيج عمراني ما، ريفي الطابع، ونشأت فيها بعض الأعمال الحِرفية المتنوّعة.
في الحقول والمراعي زُرعت أشجار التوت التي تتطلّبها تربية دود الحرير. ثمّ زُرعت الأشجار الساحلية المثمرة، كالحمضيات في بساتين أُقيمت لريّها أقنيةٌ جُرّت فيها إلى السهل مياه جداول المنحدرات الجبلية القريبة وينابيعها.
حتى أربعينيات القرن العشرين، ظلّت الحياة المحلية في ساحل المتن الجنوبي، حسب خوري وكزما وشهادات أهالي حارة حريك، موزّعة بين نوعين من دوائر الإقامة:
– النوى العمرانية أو السكنيّة البلدية، حيث يقيم قدامى السكّان المستقرّين المتوطّنين العاملين في الزراعة والمهن والحِرف، وسواهم من ملّاك الأراضي الزراعية.
– المزارع، أو السقي حسب المصطلح البلدي المحلّي، أي الأراضي الزراعية المرويّة، التي ينزل فيها فلّاحون ومزارعون يعملون في أراضي الملّاك ويربّون الحيوانات الأليفة والدواجن.
الحرير والارتقاء الاجتماعيّ
في أيّار 2005 التقيت المحامي المتقاعد والكاتب والصحافي ميخائيل عون (1935 – 2019) الذي كان شيوعياً على مذهب والده، كغيرهما من بعض المسيحيين النازلين قديماً في سقي حارة حريك. وفي ذكريات طفولة عون وشبابه عن حارة حريك تبرز هاتان الدائرتان (القرية/الضيعة، السقي أو المزارع) بروزاً واضحاً وجليّاً. فبينما كانت البيوت متقاربة ويجمع بينها نسيج عمراني أهليّ وعائليّ في الحارة، كانت بيوت الفلاحين الصغيرة والمتواضعة، متباعدة في المزارع – السقي، ولا يربطها نسيج عمراني، إلا على نحو ضعيف بدأت تظهر ملامحه الطفيفة مع تكاثر الفلاحين في السقي. ونشأ عن ذاك التكاثر ما يشبه ساحة عامّة قرويّة في بستان زيتون به بركة ماء صغيرة، حسب رواية عون. بعض الفلاحين النازلين في السقي انتقل للإقامة في الحارة، أو شيّد بعضهم الآخر بيوتاً جديدة في السقي. أمّا الملّاك الذين أثروا من أعمالهم في صناعة الحرير وتجارته، فأخذوا يغادرون النواة العمرانية في الحارة للإقامة في دُور جديدة مستقلّة، شيّدوها من طبقة أو اثنتين على تخوم الأراضي الزراعية والبساتين في السقي.
من أشهر ملّاك البساتين في حارة حريك، يذكر محمد كزما “آل تحومي، عضيمي، سرواني، ودكاش” الذين كانت بساتينهم زاهرة “بأشجار البرتقال والأفندي والحامض”. أمّا “تربية الأبقار والجمال والحمير والأغنام عدا الطيور الداجنة، فكان لها مكان خاص (قرب) كلّ بيت، منعاً لغارات الثعالب عليها ليلاً”. والأرجح أنّ هذه الأماكن المسيّجة كانت في المزارع، قرب بيوت الفلاحين الذين كانوا ينزلون فيها ويعملون.
قصّة دارة المحامي
إلى هذه العائلات المسيحية من ملّاك البساتين في حارة حريك المسيحيّين، أضاف عون آل الشويفاتي وواكد وجبير والمعلّم وكنعان. أمّا زوجته، وهي من آل تحومي، فروت أنّ عائلتها وفدت في بدايات القرن التاسع عشر من قرية تحوم في بلاد البترون إلى حارة حريك، فملكت فيها بساتين وعملت في صناعة الحرير. وفي أواخر عهد متصرفيّة جبل لبنان (1860 – 1914) برز من العائلة جدّ الراوية، شربل تحومي الذي كان من أوائل المحامين، بعد تخرّجه من كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف ببيروت، وأسّس مكتب محاماة شهيراً، تدرّج فيه الشيخ بشارة الخوري الذي أسّس لاحقاً مكتباً مستقلّاً للمحاماة وانخرط في العمل السياسي والتمثيل النيابي، وانتُخب رئيساً للجمهورية في بدايات الأربعينيات من القرن العشرين.
بعد زواجه شيّد شربل تحومي المحامي دارة واسعة من طبقتين لأسرته على تخوم بساتين العائلة في حارة حريك. أمّا ابنه، والد الراوية، فقد تزوّج امرأة من زحلة في البقاع في ثلاثينيات القرن العشرين، وورث الدارة وأقام فيها، قبل أن يتفرّق شمل عائلة تحومي المقيمة في حارة حريك وتُهمل أملاكها الزراعية وتبيع مساحات واسعة منها في الخمسينيات والستّينيات من القرن العشرين.
الراوية، ابنة وارث الدارة عن والده المحامي القديم، تزوّجت مطلع الخمسينيات ابن حارة حريك، ميخائيل عون، فورثت الدارة مع إخوتها الذين تفرّق شملهم. لكنّها أقامت مع زوجها في شقّة من بناية حديثة شيّدتها عائلته مطالع الستّينيات على أملاك لها في سقي الحارة. وفي ثمانينيات القرن الماضي، كانت دارة تحومي القديمة، المشيّدة على الطراز المعماري التقليدي، مهجورة مهملة. ذلك أنّ الحروب الأهلية (1975 – 1990) هجّرت الراوية وأسرتها هجرات كثيرة أقامت في فترات منها بكنف أهل أمّها في زحلة. واحتلّت الدارة جماعة مسلّحة بإمرة “أبي علي مصطفى” في حارة حريك. وبعدما نهبت مكتبتها القديمة ومحتوياتها، أُسكِنت فيها عائلة شيعية جعل نساؤها يتذمّرن من الراوية، كلّما زارت دارة أهلها وطفولتها وشبابها زيارة استطلاعية عابرة.
أدّى تناقص سكّان الشيّاح وملّاكها المسيحيّين، وكثافة موجات الهجرة الشيعية إليها، ونزولهم بكثرة مخالطين شيعتها “الأصليين” في شمالها الغربي، وصولاً إلى تخوم حارة حريك الشمالية، إلى نشوء محلّة – ضاحية غربية شيعية في الشيّاح
مسيحيّو الشيّاح
كان تحوُّل العمران البلدي الزراعي في ساحل المتن الجنوبي إلى عمران الضواحي المدنية الفوضوية، قد سبق الحرب بأكثر من عقدين من السنوات. فؤاد خوري في بحثه المذكور أعلاه، يعيد ذلك إلى نهاية ثلاثينيات القرن العشرين. وهو تتبّع عوامل هذا التحوُّل في الشيّاح وأرَّخ له، اقتصادياً وديمغرافياً:
– إذا كانت هجرة المسيحيين من مناطق لبنانية كثيرة إلى أميركا الجنوبية والشمالية، تعود إلى نهايات الحرب العالمية الأولى ومجاعتها، فإنّ انهيار البنية الاقتصادية والاجتماعية لصناعة الحرير مطالع ثلاثينيات القرن العشرين أدّى إلى تزايد هجرة المسيحيين من الشيّاح، حيث كانت استثماراتهم وخبراتهم الحِرفية والتجارية قاعدة هذه الصناعة. لذا تناقص عدد سكّان الشيّاح المسيحيين، بعدما كانوا الغالبية إلى جانب أقلّية شيعية في ذاك الوقت.
– نجم عن انهيار صناعة الحرير وتعاظم هجرة المسيحيين من الشيّاح اقتصار دورة الأعمال ومصادر العيش المحلّية على الحِرف البسيطة والعمل في المرافق الصناعية الناشئة (معمل غندور ومعمل “الريحة”، أي العطور، في الشيّاح، ومعمل جبر في حارة حريك)، إلى جانب زراعة الحمضيات والخُضر المتزايدة بدل التوت الذي كانت تستلزمه الصناعة المنهارة.
– كانت بدايات الهجرة الشيعية البعلبكيّة إلى الشيّاح، قد سبقت زمنياً انهيار تجارة الحرير. ففي العشرينيات من القرن الماضي، على ما يترجم وهيب معلوف في كتابه “نائب الشعب الكادح، سيرة عبدالله الحاج (1899 – 1975)”، وهو من منشورات “دار النهار” ببيروت عام 2007، نقلاً عن فؤاد خوري، “وفدت مجموعة من العائلات الشيعية البعلبكيّة إلى الشيّاح واستقرّت فيها”، وعمل رجالها وشبّانها سُيّاس خيل، تلبية لحاجات ملعب سباق الخيل الذي أُنشئ “عام 1927 في غابة الصنوبر شمال الشيّاح”، حيث شُيّدت للخيول إسطبلات كثيرة، عمل فيها السائسون الوافدون، وأقاموا قربها إقامة جماعية شبه عشائرية في بيوت أو غرف شُيّدت متقاربة وعلى عجل لإيوائهم. وأحصى خوري نزول أكثر من 60 أسرة بعلبكيّة دفعة واحدة في هذه البيوت – الغرف التي أُقيمت على “أطراف الشيّاح” الشمالية الغربية، بين منازل السكّان الشيعة “الأصليين” وغابة الصنوبر. وهذا رقم ضخم بمقاييس التحرّكات السكّانية اللبنانية في ذلك الوقت الذي تسارعت بعده موجات المهاجرين الشيعة البعلبكيّين والجنوبيين إلى الشيّاح.
إقرأ أيضاً: “التكفير” في الغبيري.. قبل 100 عام من لقمان
أدّى تناقص سكّان الشيّاح وملّاكها المسيحيّين، وكثافة موجات الهجرة الشيعية إليها، ونزولهم بكثرة مخالطين شيعتها “الأصليين” في شمالها الغربي، وصولاً إلى تخوم حارة حريك الشمالية، إلى نشوء محلّة – ضاحية غربية شيعية في الشيّاح. أمّا إنشاء ما سُمّي طريق صيدا القديمة، آتياً من خلده وعابراً كفرشيما والحدث، وصولاً إلى أطراف سقي حارة حريك الشرقية، فقد أدّى مروره في الشيّاح إلى قسمتها قسمين اثنين: شرقيّ عُرف بعين الرمّانة، وغربيّ انفصل إداريّاً وبلديّاً عن الشيّاح وسُمّي الغبيري. والغبيري هي التي صارت محلّة – ضاحية غربية وشيعية، بعدما نشأت فيها بلديّة ومخترة مستقلّتان عن البلدة الأمّ، فيما صارت عين الرمّانة محلّة – ضاحية شرقية ومسيحية.
في الحلقة الثانية: حارة حريك تندثر.. بسلاح يساريّ وفلسطينيّ وهجرات شيعيّة