إسرائيل تغيّرت.. كذلك نتنياهو

مدة القراءة 10 د

التسبب بأخطر أزمة داخلية، إضعاف الديمقراطية، زعزعة الاستقرار، إطلاق التظاهرات الشعبية، ضمور الثقة بالحكومة، تحديات أمنية في الأفق، احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية أخرى، وتلاشي مساعي السلام.. والأهمّ من ذلك الانتقال بإسرائيل إلى مكان آخر غير مسبوق وتوتّر العلاقات مع الإدارة الأميركية.
كلّ ذلك وأمور أخرى تسبّب فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو في سعيه إلى تدمير القضاء المستقل، بحسب آرون ديفيد ميلر المحلل السابق في وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط والعضو السابق في الوفد الاميركي للمفاوضات العربية الاسرائيلية، ودانيال كيرتزر السفير السابق للولايات المتحدة في مصر وإسرائيل.
كتب ميللر وكيرتزر مقالاً مشتركاً في مجلة “فورين بوليسي”:لقد استغرق الأمر ثلاثة أشهر، ونزول مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع، واعلان إضرابٍ عام توقفت فيه الرحلات الجوية في مطار إسرائيل الدولي الرئيسي واغلاق سفارات وقنصليات الدولة في جميع أنحاء العالم، لكي يتعثر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بشكل سيّئ وربما قاتل بعدما كان يعتقد ذات مرة أنه السياسي الأقوى والأكثر ذكاءً في الأرض.
من الصعب المبالغة في تقدير حجم الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه نتانياهو حين تصور أنه يستطيع بشكل منفرد، حتى مع وجود أغلبية في الكنيست، تدمير قضاء مستقل وتغيير طابع الدولة. طرده الاستباقي لوزير دفاعه، وهو رجل عسكري محترف، لتجرُّئه على التحدث علانية ضد الإصلاحات القضائية، عزز الانطباع بأن رئيس الوزراء وضع سياساته الشخصية فوق أمن الأمة، وهي صورة انعكست في احتجاجات الآلاف من جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي.

ربما يكون العامل الأكثر أهمية والأكثر إثارة للحيرة في الأزمة المستمرة هو التغيير الواضح في شخصية رئيس الوزراء وسلوكه

لقد أعطت مشاركة جنود الاحتياط في الاحتجاجات والضغوط التي مارسها رؤساء أجهزة المخابرات والأمن في البلد على رئيس الوزراء قدراً كبيراً من الشرعية للتظاهرات، بل ان بعض أعضاء حزب الليكود التابع لنتانياهو والأحزاب الدينية المتطرفة في ائتلافه الحاكم ضغطوا عليه للتنحي. والواقع أن تنوع المتظاهرين، من شريحة حقيقية متقاطعة من اليهود الإسرائيليين وبعض عرب إسرائيل من جميع قطاعات المجتمع، أظهر أن رئيس الوزراء يهاجم المجتمع الإسرائيلي ككل.
مسيرة نتانياهو السياسية لم تنتهِ بأي حال من الأحوال، وائتلافه لا يظهر أي علامة على انهيار وشيك. لكن سمعته السياسية تشوهت، وهو الآن يعاني من نقص في الثقة مع إدارة بايدن.
ستبقى السياسة الإسرائيلية غير مستقرة للغاية مع ظهور التأثير الكامل لما حدث. وهناك تحديات أمنية تلوح في الأفق. لكن هناك شيئاً واحداً واضح بالفعل، وهو أن جهود نتانياهو الفاشلة لإضعاف الديمقراطية الإسرائيلية، إن لم يكن لإعادة تعريف طابع الدولة، والمقاومة المذهلة للرأي العام لهذه الجهود، قد نقلتا إسرائيل إلى مكان لم تكن عليه من قبل.

هناك أربعة دروس مهمة يمكن تعلمها من هذه المأساة وما يحتمل أن يتبعها. وهي:
1. لم ينتهِ الأمر بعد
كلانا لديه خبرة كافية في التعامل مع نتانياهو ونعلم انه لا يمكن استبعاده او التقليل من شأنه. فهو رئيس الوزراء ويسيطر على الأقل على معظم حزب الليكود، أكبر الأحزاب السياسية وأكثرها تماسكاً في البلاد. وهو أكثر تصميماً من أي سياسي إسرائيلي آخر على البقاء في السلطة وقد أظهر بوضوح أنه على استعداد للذهاب إلى أبعد من الآخرين لتحقيق ذلك.
على الرغم من أنّ نتانياهو قد علق مؤقتاً إصلاحاته القضائية، فقد أوضح أيضاً أنه سيواصل دفع مشاريع القوانين عبر الكنيست بعد عطلة عيد الفصح في أيار.
عقد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي حاول دون جدوى إيجاد حل وسط لإنهاء الأزمة، محادثات بين الطرفين. لكن ربما كإشارة إلى أن نتانياهو ليس مستعداً لتقديم تنازلات، لم يشارك في المفاوضات أيٌّ من مساعديه الرئيسيين الذين صمموا خطط التشريع القضائي الخاصة به.
مع انعدام الثقة بنتانياهو وضمور الاطمئنان له، لا يخاطر المتظاهرون بضياع الفرصة بل ويخططون لمواصلة الضغط في الشوارع. في الواقع، ربما ظهر عامل جديد لا يمكن التنبؤ به على المشهد السياسي في إسرائيل: إنشاء حركة شعبية وشعبوية أظهرت بالفعل قوتها وقدرتها على الاستمرار.

التوترات الحالية بين إدارة بايدن وتحالف نتانياهو لا سابق لها في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية

2. نتانياهو لم يعد هو نفسه
ربما يكون العامل الأكثر أهمية والأكثر إثارة للحيرة في الأزمة المستمرة هو التغيير الواضح في شخصية رئيس الوزراء وسلوكه. وباعتباره كان الداعم الدائم لسلطة قضائية مستقلة، ليس هناك شك في أن شيئاً ما قد غيّر نفوره السابق من المخاطرة والتهور. على الرغم من خطابه المتشدد في كثير من الأحيان، كان نتانياهو دائماً متردداً في المخاطرة وحذراً بطبيعته، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحرب أو صنع السلام. وغالباً ما كان يتردد، مع ميل إلى المماطلة، فيأخذ خطوة إلى الأمام، وخطوة ونصف خطوة إلى الوراء، ثم يخرج في مكان ما بينهما.
لطالما افتخر نتانياهو بقدرته على التثليث وقراءة المشهد السياسي بشكلٍ صحيح والبقاء ضمن الخطوط العريضة لما قد يتسامح معه الرأي العام. كل هذا تغيّر بشكل جذري. ويزعم أنشل بفيفر، كاتب عمود في صحيفة هآرتس وكاتب سيرة نتانياهو بعد أن درسها لسنوات، أن تهور نتانياهو لم يكن ليحدث أبداً لـ “بيبي القديم”، ويصف سلوكه الحالي بأنه “فشل مذهل” في الأمور التي عادة ما يجيدها. وقالت المديرة السابقة لبنك إسرائيل كارنيت فلوغ، التي عملت عن كثب مع نتانياهو لتحقيق الاستقرار والنمو للاقتصاد الإسرائيلي، إنها لا تستطيع أن تفهم كيف يمكن للسيد نتانياهو أن يرفض أو يتجاهل تحذيرات الخبراء بشأن المخاطر الاقتصادية والأمنية لمتابعة إصلاحه القضائي المفرط.
ما غيّر سلوك نتانياهو لا يمكن إلّا أن يظل مصدر تكهنات. هل هي محاكمته الجارية بتهمة الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة؟ أم أنها، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في مقابلة حديثة معFP Live ، عواقب السعي وراء السلطة المطلقة التي تُفسِد تماماً؟ أو ربما هو تأثير الدائرة المغلقة لمستشاري نتانياهو وعائلته، وخاصة ابنه يائير، الذين يتاجرون في نظريات المؤامرة والبارانويا؟
مهما كان السبب، تسبب نتانياهو بأخطر أزمة داخلية في تاريخ إسرائيل. وكما كتب بفيفر: “هذا نتانياهو كما لم يكن من قبل. رحل رئيس الوزراء البراغماتي الذي يتجنب المخاطر والذي باعتراف منافسيه “لم يلعب أبداً مع الأمن القومي”. بنيامين نتانياهو، البالغ من العمر 73 عاماً، هو الآن الرئيس العام لحكومة من مثيري الحرائق المستعدين لإشعال النيران في البلاد بهدف وحيد هو تدمير النظام القضائي المكروه وإقامة هيمنتهم الخاصة. يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكانه تغيير المسار.

3. الاحتلال برميل بارود
لقد غاب عن خطاب التظاهرات الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، الذي لطالما اعتبر أحد أهم التهديدات لأمن إسرائيل ورفاهها على المدى الطويل. سخر اليساريون وغيرهم من المنتقدين من مطلب المتظاهرين بالديمقراطية في إسرائيل بينما تجاهلوا سياسات الحكومة الإسرائيلية غير الديمقراطية في الأساس وما تمارسه من إجراءات تجاه الفلسطينيين وتمييز منهجي ضد المواطنين العرب في إسرائيل.
بالنسبة للمتظاهرين، كان الفصل بين هاتين المسألتين تكتيكاً أساسياً للحفاظ على التماسك بين مجموعة تضم العديد من الإسرائيليين المحافظين، بما في ذلك بعض الذين يعيشون في المستوطنات الإسرائيلية، حيث إن من شأن الدمج بين أسباب الإصلاح القضائي والاحتلال أن يوجد تصدعات خطيرة بين المحتجين.
لكن السؤال هو ما إذا كانت الدوافع الديمقراطية التي تقود التظاهرات يمكن أن تؤدي إلى حملة وطنية لإنهاء الاحتلال، أو على الأقل تعزيز المساواة في الحقوق للفلسطينيين. لقد صمت معسكر السلام الإسرائيلي بعد الانتفاضة الثانية (وقد يظل صامتاً إذا اندلعت انتفاضة أخرى)، لكن هذا المظهر الجديد للانخراط الشعبوي قد يقنع نشطاء السلام بإعادة الانخراط.
ومن المؤشرات التي تبعث على الأمل أن بعض المتظاهرين تبنوا شعار “الديمقراطية للجميع”، مما يشير إلى وجود صلة محتملة بين الجدل الداخلي والاحتلال. لكن هذا لا يمثل رأي الغالبية العظمى من المحتجين. في الواقع، أفيد بأن متظاهرين آخرين هاجموا المتظاهرين الذين كانوا يرفعون الأعلام الفلسطينية أثناء التظاهرات.
إذا هدأ الوضع الداخلي وعندما يستقر، فإن التهديد الوجودي للنسيج الاجتماعي والسياسي لإسرائيل، وهو احتلال طويل الأمد بلا مخرج، يمكن أن يعود إلى الواجهة، بل حتى قبل ذلك، فإن احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية أخرى يلوح في الأفق بشكلٍ كبير، نتيجة تصاعد حالة الإحباط والغضب بين الشباب الفلسطينيين.

4. نتانياهو تحت المراقبة مع بايدن
تتكيّف إدارة بايدن ببطء مع حقيقة أنها لم تعد تتعامل مع نتانياهو القديم. لعدد من الأسباب، من الارتباط العاطفي العميق للرئيس الأميركي جو بايدن بإسرائيل إلى السلبيات السياسية الداخلية للخلاف مع إسرائيل، خاصة مع الحزب الجمهوري الذي ظهر كحزب “إسرائيل، سواء كانت على صواب أو خطأ”، إلى التحدّي الذي يلوح في الأفق لبرنامج إيران النووي، والذي يتطلب تعاوناً وثيقاً مع إسرائيل، لا تسعى الإدارة الاميركية الى صراع علني مستمر مع نتانياهو.
ومع ذلك، فإن تصرفات رئيس الوزراء تختبر بايدن. ويتصاعد الغضب والإحباط. وظهر ذلك في تصريحات بايدن الأخيرة حول جهود حكومة نتانياهو لإجراء إصلاحات قضائية، إذ قال إنها “لا تستطيع الاستمرار في هذا الطريق” ، فضلاً عن أن تصريحه القاطع الى حدٍ ما بأنه لن تكون هناك دعوة في “المدى القريب” لنتانياهو إلى زيارة واشنطن، يوحي بموقف أكثر صرامة.

إقرأ أيضاً: نخبة واشنطن: الحرب على إيران.. قريبة جدّاً

ومع ذلك، لا يوجد حتى الآن أي انطباع بأن الإدارة مستعدة لفرض تكاليف أو عواقب محددة على حكومة نتانياهو. يبدو أن رئيس الوزراء يخضع لنوع من المراقبة مع بايدن. وقد تؤثر الطريقة، التي يتعامل بها الزعيم الإسرائيلي الآن مع القضية القضائية وإمكانية حدوث توترات مع الفلسطينيين خلال فترتي رمضان والفصح، على العلاقات التي ستقيمها الولايات المتحدة معه في المستقبل.
التوترات الحالية بين إدارة بايدن وتحالف نتانياهو لا سابق لها في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية. عانى البلدان من خلافات سياسية عميقة، عادة ما تتعلق بالقضية الفلسطينية أو لبنان، لكن لم يكن لديهما أي شكوك حول القيم التي يدّعيان دائماً أنهما يتقاسمانها. كان وجود إسرائيل باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في منطقتها، مهما كانت ديمقراطية غير كاملة، هو الركيزة الأساس لدعمها من كل من واشنطن والرأي العام الأميركي عموماً. وقد أدى ذلك إلى دعم غير عادي من الحزبين للحكومات الإسرائيلية بغض النظر عن الشخصيات أو السياسات.

 

*آرون ديفيد ميلر هو زميل أقدم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومحلل سابق في وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ومفاوض في الإدارات الجمهورية والديمقراطية في المحادثات العربية الاسرائيلية.

*دانيال كيرتزر سفير سابق للولايات المتحدة في مصر وإسرائيل. يدرّس الدبلوماسية وحل النزاعات في كلية الشؤون العامة والدولية بجامعة برينستون.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…