فرنسا تتخبّط: سياسة خارجية أم مصالح تجارية؟

مدة القراءة 6 د

فرنسا تعاني وتتخبّط في سياساتها الخارجية والداخلية حتى تحوّلت إلى عبء على حلفائها، وآخرهم المملكة العربية السعودية. انعكس كل ذلك على الملف اللبناني واستحقاقاته، مرخياً بظلاله على الفعالية في ابتداع المبادرات والحلول.
ساهمت الحراكية المتدهورة للأحزاب السياسية الفرنسية، مع ضياع النهج الجمهوري التقليدي وركود المدرسة الاشتراكية، إلى تردٍّ ملحوظ في مستوى المؤسسات الدستورية والإدارية والخدماتية. أدّى نموّ الروح القومية المتطرّفة، وظهور الشعبوية السياسية المتزامنة مع الإرادة اليومية المتهالكة، إلى ضعف حيثيّ وكيفيّ في الدور الفرنسي الخارجي. أضحت حركة باريس بلا بركة، مع عجز مشهود في عدم بلوغ خواتيم ناجحة في الملف اللبناني.

البحث عن ديغول
تبحث الجمهورية الخامسة الفرنسية عن ديغولها الجديد. تفتقده في الحضور والأداء والتصوّرات، وتحتاج إليه في السلوك السلس المؤسّساتي في طريقة الحكم، وحتى في خضمّ الأزمات والتظاهرات.
يواجه العهد الماكرونيّ الثاني خللاً كبيراً في أولويات نظام الحكم. إذ فقَدَ الهيكل الجمهوري المرونة الديمقراطية المعهودة مع انخفاض معدّلات الثقة بين المؤسسات. تفاقمت حالات المنافسة السلبية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحتى القضائية. تواترت بقلق حالات الاحتيال على الدستور والقوانين من خلال الاستفادة من المواد القانونية بالطرق الشرعية والمظلّة المشروعة.

تبحث الجمهورية الخامسة الفرنسية عن ديغولها الجديد. تفتقده في الحضور والأداء والتصوّرات، وتحتاج إليه في السلوك السلس المؤسّساتي في طريقة الحكم، وحتى في خضمّ الأزمات والتظاهرات

كرّست هذه المشهديات وضعية التشرذم محلياً، وضعف نجاعة الثبات الخارجي في السياسة، من خلال :
1- الانسداد البرلماني الفرنسي: الذي خلق برلماناً فرنسياً بنكهة لبنانية غريبة الأطوار، مع افتقاده لأكثرية تقرّر وتشرّع، وظهور أقليّات مشتّتة تشلّ وتعرقل وتعقد الصفقات. ساهمت كلّها في ولادة الفوضى التشريعية العارمة، مع تبخّر في جدوى السياسة الخارجية البرلمانية. انقسمت الجمعية العامة إلى كتل نيابية متشعّبة، وأضحى لكلّ منها قرارها الضعيف وأسلوب حلّها المختلف.
2- التغوّل الحكومي: من خلال استخدام الحكومة الصلاحيات التشريعية، ومنافستها المجلس النيابي، وتصفير نشاطه، بحجّة المحافظة على الاستقرار في الدولة، وتحصين ثبات الجمهورية. وقد انعكس هذا الأداء على السياسة التنفيذية الخارجية، التي بعثرت كلّ التزاماتها العابرة للحدود مع الدول الصديقة، وهو ما يعاني منه لبنان بشكل مباشر، وعرقل العديد من استحقاقاته.
3- فقدان الثبات السياسي: سقطت الأحزاب التقليدية في فرنسا سقوطاً حرّاً، وهي التي شكّلت العمود الفقري للجمهورية الفرنسية (الجمهورية، اليسارية، الاشتراكية). ظهرت البراغماتية الوسطية المختلطة، المؤلّفة منهم جميعاً مع بعض المستقلّين والرماديين والمتردّدين والناقمين. تحولّت السياسة الفرنسية بنتيجتها من فرع سياسة الدولة إلى سياسة الشركات والسمسرات والاستثمارات التجارية الصرفة.

مبارزة ثلاثيّة الأبعاد
برزت على أثرها وفي الآونة الأخيرة مبارزة داخلية ثلاثية الأبعاد بين مدارس ومؤسسات صناعة القرار وإنتاج التسويات. تشعّبت المسوّدات. اختلفت بين قصر الرئاسة الفرنسية، ووزارة الخارجية، وجماعات النخبة. علق الملف اللبناني بين بازاراتهم ومخطّطاتهم، وباتت تؤثّر على وجهات النظر الفرنسية بخصوص لبنان ثلاث جهات هي:
1- قصر الإليزيه: رئيس الجمهورية، الحكومة مع مجموعة المستشارين والمعاونين المباشرين.
2- وزارة الخارجية: وزيرها وسفراؤها ودبلوماسيّوها، إضافة إلى خبرائها ورؤساء دوائرها.
3- مراكز الأبحاث وجماعة النخبة النافذة: هم مجموعة من الشخصيات الأمنية والاستخبارية، بمختلف تشابكاتهم وعلاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية والتجارية، التي تفوح منها رائحة الصفقات والوساطات المصلحية والشخصية.

أضحت السياسة الخارجية الفرنسية مقرونة بالأمور التجارية. فقد تحوّل لبنان بالنسبة لفرنسا إلى جغرافيا ومنطقة نفوذ تجارية لاستثمارات شركاتها التجارية الكبرى

أنماط مختلفة للحلّ اللبنانيّ
أصبح لدى هذه المناهج عدّة فئات، مع أنماط احتمالية مختلفة للحلّ اللبناني. وهذه الفئات هي:
– الفئة الأولى: مجموعة تهمّها التسوية اللبنانية بأيّة طريقة كانت، وإقفال ملف لبنان بسرعة.
– الفئة الثانية: تنخرط في التوصّل إلى اتفاق من خلال اعتمادها على التسويات، ولو بتنازلات من مختلف أطرافها. تتركّز أولويتها على المصالح الفرنسية والاستثمارات والاحتيالات. تعمل ظاهرياً لصالح استقرار لبنان، فيما تهدف في الواقع إلى زيادة نقاطها وأرباحها ومواطن قوّتها ووجودها، ولو على حساب لبنان الدولة والمؤسسات والعيش المشترك، وتعاونها في ذلك أطراف لبنانية وإقليمية. ومع تلك الفئة اندلعت معركة المملكة العربية السعودية الحريصة كلّ الحرص على لبنان المستقرّ والعروبي.
– الفئة الثالثة: هي المجموعة الثابتة في سياستها والمقتنعة فقط بالمؤسسات. تتمسّك بالحلّ اللبناني من منطلق دستور الطائف والقوانين والمواثيق، وأن يكون لبنان بلد الرسالة ويعود إلى تاريخه.
أضحت السياسة الخارجية الفرنسية مقرونة بالأمور التجارية. فقد تحوّل لبنان بالنسبة لفرنسا إلى جغرافيا ومنطقة نفوذ تجارية لاستثمارات شركاتها التجارية الكبرى. وإنّ تغيير فرنسا لسياستها ورؤيتها، وحتى علاقاتها، في سبيل الصفقات والكسب والعقود التريليونية الكبيرة، هو أصل التباين الفرنسي مع المملكة العربية السعودية. لقد أضحى النشاط السياسي الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط من إيران إلى العراق ولبنان متمحوراً على عقود التجارة الدولية وصفقات السلاح، واستخراج النفط والغاز، والعمليات المصرفية، ويرتكز في سوريا على مشاريع إعادة الإعمار، وهو ما لا تقبل به المملكة العربية السعودية، وخاصة في لبنان.
أخّرت المناورات الفرنسية على البيان الثلاثي مواقيت الحلّ، وأكثرت من العراقيل والالتفافات في أروقة اللقاءات الخماسية، وهو ما انعكس عبئاً إضافياً على المملكة التي لا تريد شيئاً من لبنان سوى استقراره، واحترامه للقوانين والشرعية الدولية.

إقرأ أيضاً: فرنسا: زادت أعمارهم 15 عاماً.. ويرفضون العمل عامين إضافيين

تتّسم المملكة السعودية بالوضوح والشفافية المطلقة. ولذلك فصلت لبنان عن كلّ الملفّات وحصّنته. لا تضع فيتو على أحد ولا تسمّي أيّ شخص لأيّ منصب. ما يهمّها هو المعيار والمواصفات الشافية للبنان. وأمّا فرنسا فتغرق في وحل الباطنية اللبنانية وتفاصيلها المملّة وسلّتها الكاملة. تسمّي وتدعم وتعد في سبيل استثماراتها الإقليمية قبل تلك اللبنانية. ساهمت هذه السلوكيات في انخفاض منسوب الثقة وأخّرت الاستحقاقات انعكاساً لرعونة أدائها السياسي الداخلي.
يتاجر ماكرون في السياسة البراغماتية، ويسايس في التجارة الدولية، فيما يقامر اللبناني اتّكاليّاً، ويراهن كعادته على حصان تسوية أعرج، نهايته الارتطامية مكشوفة بالنكهة الإيرانية أو الصينية أو الفرنسية، وحتى مع زحمة الطائرات والزيارات على خط مطارَي الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشارل ديغول. هي مبادرات ضرورية بالشكل، لكنّها منقوصة بالعمق.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…