السعوديّة بعد الاتّفاق الصينيّ: حصن العرب الإقليميّ والدوليّ

مدة القراءة 6 د

تحدّد الاستراتيجية السعودية الجديدة التي ترجمها الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، مسارات ثلاثة وثوابت ثلاثاً، بما فيها العنوان الأساسي: “اعتماد سياسة التوازن”. أي التأسيس لحقبة جديدة جذورها في “عدم الانحياز” بالسياسة الخارجية.

هذا سيترك آثاراً وتداعياتٍ على الوضع السياسي العام في المنطقة. ويرتبط كذلك بآلية عمل أو تركيبة النظام العالمي. خاصة أن السعودية، وهي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، قادرة على فتح الآفاق أمام مشروع “الحزام والطريق” الصيني.

مسارات السعوديّة المتوازنة

 أمّا المسارات التي يمكن أن تتّجه إليها السعودية فهي التالية:

– الأول: احتفاظها بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية على قاعدة ندّية، والتكافؤ في المصالح على الرغم من الاختلافات في بعض المقاربات أو الملفات.

– الثاني: سلوك طريق تعزيز العلاقات شرقاً، وإحياء دور منطقة الخليج كصلة وصل بين شعوب وأمم كانت تاريخياً تسمّى بمعبر “طريق الحرير”.

– الثالث: الحفاظ على العلاقة بأوروبا وتكريس التوازن فيها بناءً على الموقف السعودي من الحرب الروسية على أوكرانيا والسعي إلى وقفها وإيجاد تسوية لها.

قام شطر من آلية الاتفاق بين إيران والسعودية على خلفية التفاف السعودية على كلّ محاولات الضغط والحصار التي تتعرّض لها من قبل الأميركيين أو الأوروبيين أو الإسرائيليين، لدفعها إلى التخلّي عن مندرجات قمّة بيروت وعن حلّ الدولتين

ثوابت “القوّة الإقليميّة”

الثوابت السعودية ثلاثة هي التالية:

– الأولى: إعلاء شأن المصلحة السعودية، بشكل تكون علاقاتها بالدول قائمة على تلبية مصلحتها الاستراتيجية وفق رؤية 2030.

– الثانية: بقاء السعودية قوة إقليمية وعربية قادرة على الدفاع عن مصالح الأمن القومي العربي. وهذا يمتدّ على تاريخ طويل ومسار أطول. وقد تجلّى في مرحلة ما بعد الربيع العربي من خلال مساعدة مصر والبحرين واليمن، وصولاً إلى وضع مسار واضح لمقاربة ملفّات لبنان وسوريا والعراق، على قاعدة تعزيز الدولة الوطنية والحفاظ على مرتكزاتها. وهذه كلّها مشمولة في التفاوض السعودي الإيراني، أو حتى في أيّ تفاوض مع الأميركيين أو الأوروبيين، ولا سيما الفرنسيين.

– الثالثة: تمسّك المملكة العربية السعودية بمبادرتها للسلام في المنطقة والقائمة على نتائج قمّة بيروت العربية في عام 2002، والتي ترتكز على حلّ الدولتين. وهذا يعني التمسّك بمبدأ الدولة الفلسطينية.

قام شطر من آلية الاتفاق بين إيران والسعودية على خلفية التفاف السعودية على كلّ محاولات الضغط والحصار التي تتعرّض لها من قبل الأميركيين أو الأوروبيين أو الإسرائيليين، لدفعها إلى التخلّي عن مندرجات قمّة بيروت وعن حلّ الدولتين، على قاعدة الابتزاز بالتخويف من “البعبع الإيراني” الذي تمدّد في المنطقة لمحاصرة السعودية، فأسهم في انهيار الدول الوطنية وبُناها ومدنها. علماً أنّ الهدف كان استخدام التمدّد الإيراني لدفع السعودية نحو إسرائيل.

استراتيجية المصلحة المشتركة

بناءً على هذه الاستراتيجية السعودية يتّضح، في حال إسقاطها على رقعة الشطرنج، أنّ الرياض جعلت “الملك” محميّاً بالجنود من دون استخدام الأحصنة والقلاع التي لا تزال تحافظ على مكانتها. وبذلك فهي حصّنت نفسها بعلاقات واسعة على امتداد العالم، واحتفظت بالثوابت.

أصبح على من يريد التقرّب أو التفاهم أو التحالف أو المساعدة أن يلبّي حدّاً أدنى من الشروط التي تقوم على مبدأ المصلحة المشتركة أو المتبادلة. لم يكن صدفة ترؤس مساعد العيبان الوفد السعودي إلى بكين. فالرجل خبرته واسعة في “ترسيم ورسم حدود السياسات”. وهو الذي خاض بنجاح عملية ترسيم الحدود السعودية مع دول الخليج، وأنتج حلّاً لأزمات خليجية كثيرة. وكان صاحب رؤية لمعالجة العلاقة المتوتّرة مع أنقرة، والحريص على وحدة الصف الخليجي، ولا سيما العلاقة مع دولة قطر بعد أزمة عام 2017.

الملفّات الإقليميّة

الأمر نفسه يختبره اللبنانيون. فهم اختبروا العلاقة بالمسؤول عن الملف اللبناني نزار العلولا، انطلاقاً من رؤية شاملة وواسعة بعيدة عن التفاصيل، مع إظهاره الإلمام بتفاصيل الملف ورسم خطة لا بد من تطبيقها بغض النظر عن حسابات تفصيلية أو مصلحية أو شخصية.

وهذا ينطبق على الملف السوري من خلال الشروط التي فُرضت على دمشق لإعادة تعزيز علاقاتها بالسعودية. وهي تقوم على:

– إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة السورية لا النظام.

– إعادة اللاجئين للحفاظ على التوازن.

– الدخول في حوار جدّي مع المعارضة على أساس القرار الدولي 2254.

تبقى السعودية آخر حصن عربي يشعر بالمسؤولية عن العرب وعن أمنهم، خصوصاً بعد تهاوي العراق، وارتباك مصر الاقتصادي، وسقوط سوريا

مراجعات مفيدة

هذه المسارات ترتكز على صراع عالمي دائر حول ممرّات النفط ومعابر الطاقة وطرق التجارة العالمية. وإذا كان القرن الفائت قد اتّسم بصراع دولي حول منابع النفط والغاز، وكان الخليج العربي استراتيجياً فيه، فإنّ القرن الحالي ترسم ملامحه صراعاتٌ حول طرق التجارة ومعابر النفط والغاز. وهو ما يجعل الخليج قبلة استراتيجية أكثر من قبل. وعليه تقوم الرؤية الخليجية، من السعودية وقطر إلى الإمارات وغيرها، على مبدأ الشروع في حقبة ما بعد الحداثة.

لذا لا بدّ من المرور على مراحل وحقب سعودية متعدّدة في السياسات الخارجية.

– منذ التحدّي الناصري انتهجت السعودية سياسة الدفاع عن الاعتدال في المنطقة، من لبنان إلى مصر فالعراق.

– اعتمدت سياسة “الترضية” لكلّ الدول العربية، بما فيها الأنظمة المناوئة لها، مثل البعث في سوريا والعراق، لتتحاشى الصدامات.

– بعد بروز التحدّي الخميني في 1979، اضطرّت السعودية إلى انتهاج سياسة الدفاع عن قيادتها وزعامتها الدينية للعالم الإسلامي. ترتّب على ذلك تبعات كبيرة عليها وعلى العالم الإسلامي.

– ارتضت السعودية لزمن طويل أن تكون تحت وطأة دورها كمنتجة للنفط، وسدّ حاجات الغرب وأميركا وضمان أمنها الطاقي، خصوصاً بعد تجربة الحظر تضامناً مع مصر وسوريا في حرب 1973، التي انتصر فيها العرب و”عبروا” قناة السويس.

أمّا بعد مرحلة الملك عبد الله، وفي ظل الملك سلمان، وبناء على سياسة ولي العهد، فقد أخذت السعودية مساراً آخر:

– الإمساك بزمام قرارها.

– انتقالها من ردّ الفعل على ما يحدث حولها، إلى دولة مخطّطة للغد، أي إلى الفعل.

– التحرّر من تقاليد باتت عائقاً أمام طموحها في التحديث والمعاصرة.

– الاستفادة من الدروس المؤلمة لما بعد صدمة 2001 والغزو الأميركي للعراق والتجربة الأفغانية. كان من إيجابيات ذلك صحوة شجاعة لفتح باب المستقبل أمام القيادة السعودية والمجتمع السعودي.

مغامرة عمرانيّة – ثقافيّة


وعليه تبقى السعودية آخر حصن عربي يشعر بالمسؤولية عن العرب وعن أمنهم، خصوصاً بعد تهاوي العراق، وارتباك مصر الاقتصادي، وسقوط سوريا. فللمرّة الأولى تفاوض السعودية وتحاور حفاظاً على مصالحها من موقع ندّيّ وتنويع الخيارات بوجه أميركا وغيرها.

إقرأ أيضاً: السعوديّة – إيران: ماراتون النجاح أو الفشل؟

ويبدو القرار السعودي أكثر استقلالاً من أيّ وقت مضى. وتحت هذا السقف، تندرج الرؤية السعودية للبنان وسوريا وكلّ دول المنطقة، من خلال تكريس نوع جديد من العلاقات مع هذه الدول، قائم على الشراكة والمصالح المتبادلة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…