لا شكّ أنّ التحدّيات التي يواجهها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني كثيرة ومتعدّدة على المستويين الداخلي والخارجي. وإذا ما كان السوداني قد استطاع توظيف التوتّرات الإقليمية والدولية للبناء على سياسة الانفتاح والتوازن بين الخلافات الإقليمية من جهة، والصراعات الدولية – الإقليمية من جهة أخرى، فإنّ التحدّي الداخلي يبدو الأكثر إلحاحاً ومصدر القلق الحقيقي الذي يهدّد مصير العراق ومصير الحكومة على حدّ سواء.
حقل الألغام.. والصدر
على الرغم من الجهود التي يبذلها السوداني لتقديم نموذج أو تجربة مختلفين عمّا قدّمه أسلافه في رئاسة الحكومة وقيادة السلطة التنفيذية، إلا أنه يبدو كمن يسير في حقل ألغام لم يستطع الخروج منه حتى الآن. فهو يملك له خريطة واحدة أو موحّدة للخروج منه، في حين أنّ كلّ طرف أو جهة سياسية أو فصيل أو ميليشيا، احتفظت بالخريطة الخاصة بها للتعامل مع مؤسسة الدولة، بناء على مصالحها وأهدافها.
هذا وفضّلت بعض القوى الانكفاء والتربّص بالتجربة الجديدة، وتحديداً التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الذي لم يقدّم أيّ خريطة لما لديه من مطالب، وفضّل السير في الحقل الذي تحوّل إلى مصدر قلق للحكومة وكلّ الأطراف التي تجهل ما الذي يريده زعيم هذا التيار، بعد الخطوة غير المسبوقة في العمل السياسي التي اتّخذها عندما قرّر الانسحاب منه تاركاً الأمور مفتوحة على كلّ الاحتمالات والخيارات، ومنها خيار العودة إلى التحرّك والنزول إلى الشارع وتفجير موجة من الاعتراضات الشعبية بوجه الحكومة والقوى السياسية التي شكّلتها ودفعته إلى خيار الانسحاب والابتعاد عن القرار المباشر. ولعلّ هذا خياره الأبرز في الزمان والمكان اللذين يقرّرهما وبالأسلوب الذي يراه مناسباً.
على الرغم من الجهود التي يبذلها السوداني لتقديم نموذج أو تجربة مختلفين عمّا قدّمه أسلافه في رئاسة الحكومة وقيادة السلطة التنفيذية، إلا أنه يبدو كمن يسير في حقل ألغام لم يستطع الخروج منه حتى الآن
تجاوز الانتخابات المبكرة
إنّ انتهاء البرلمان من القراءات الأوّليّة لتعديل قانون الانتخابات البرلمانية الذي يفتح الطريق أمام العودة إلى القانون النسبي والدوائر الموسّعة أو الدائرة الواحدة، وإنهاء العمل بقانون الدوائر الضيّقة والصوت الواحد الذي أنتج البرلمان الحالي وتسبّب بالأزمة السياسية، يؤكّدان أنّ القوى السياسية التي أنتجت الحكومة والمتكتّلة في ائتلاف إدارة الدولة، قد حسمت قرارها بعدم الذهاب إلى انتخابات مبكرة جديدة بناء على ما تمّ التوافق عليه في حوارات تشكيل الحكومة. وهو ما يعني أنّ هذه القوى وضعت الحكومة ورئيسها في مواجهة موجة جديدة من الاعتراضات الشعبية وتحريك الشارع، إضافة إلى إمكانية دخولها في أزمة ثقة مع المرجعية الدينية في النجف التي سبق أن دعمت الدعوة إلى إقرار قانون جديد للانتخابات. وهذا إضافة إلى رفضها آليّات إنتاج النواب ووصولهم بناء على القانون النسبي الذي يُراد العودة إليه.
على الرغم من قدرة الصدر وتيّاره السياسي على الحفاظ على تمثيلهما البرلماني نتيجة القاعدة الشعبية الصلبة المؤيّدة لهما وقدرتهما على إدارتها وتوجيهها كما يريدان، يريان أنّ العودة إلى القانون النسبي تمثّل انقلاباً عليهما وعلى المطالب والشروط التي وضعاها على طاولة التفاوض وعلى المهلة التي أعطياها للحكومة لاختبار أدائها قبل اتخاذ قرار اللجوء إلى التصعيد السياسي والاعتراضي، وذلك نتيجة ما تقوم به القوى السياسية المسيطرة على الحكومة والسلطة التنفيذية وتحالفها مع القوى السياسية من المكوّنات الأخرى بقيادة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي الذي يرأس ائتلاف إدارة الدولة والمدعوم بشكل واضح وقويّ من المكوّن الكردي بطرفَيه الديمقراطي – البارزاني والاتحاد الوطني – الطالباني.
المظلّة الإقليمية والدولية الواضحة التي تخيّم وتظلّل الحكومة ورئيسها، والتوافق غير المعلن بين جميع الأطراف على إعطاء السوداني فرصة لتقديم أداء مختلف
توافق واشنطن وطهران
إنّ المظلّة الإقليمية والدولية الواضحة التي تخيّم وتظلّل الحكومة ورئيسها، والتوافق غير المعلن بين جميع الأطراف على إعطاء السوداني فرصة لتقديم أداء مختلف وتفكيك العراقيل أمامه للعمل على النهوض بالواقع السياسي والاقتصادي والتنموي للعراق وإخراجه من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي يعاني منها ومن تراكماتها، قد تفرض على الزعيم الصدري التروّي كثيراً في خياراته التصعيدية وتحدّ من إمكانية الذهاب إلى اشتباك مفتوح. لكنّ هذا لن يمنع شعوره بالاستفزاز، وقد يدفعه إلى تحريك مدروس للشارع المؤيّد له.
ولعلّ ما شهدته وتشهده وستشهده بعض المدن العراقية في بغداد والوسط والجنوب من تحرّكات معترضة على قانون الانتخاب الجديد على قاعدة النسبية، يشكّل رسائل للقوى السياسية و”الإطار التنسيقي” بأنّ الصدر على استعداد وجاهزية للتحرّك وقلب الطاولة على الجميع، إذا ما وجد إصراراً على محاصرته وإقصائه. وهو من جهة أخرى محاولة لتنفيس الاحتقان وحالة الإحباط التي بدأت ترتفع وتيرتها داخل التيار الصدري الذي يرى أنّه بات على هامش القرار وأنّ مصالح قواعده الشعبية مهدّدة من قبل منافسيه.
إقرأ أيضاً: العراق: السوداني يستكمل خريطة الإستقرار
استطاعت قوى ائتلاف إدارة الدولة عامّة، وفصائل “الإطار التنسيقي” خاصة، فرض إيقاعها على أداء الحكومة ورئيسها، خاصة في المسائل والقضايا الداخلية، ولم تتخلَّ عن عرقلة جهوده في الذهاب بعيداً لتنفيذ طموحاته التي عبّر عنها في برنامجه الوزاري. فالقوى هذه ما زالت تقاوم الخطوات التي تعرّض مصالحها الاقتصادية والمالية للخطر أو تضعها في دائرة التهديد، خاصة في ملف مكافحة الفساد وعمليات الهدر المالي. وهي مصالح لم تعد مبنيّة على أساس تحالفاتها الإقليمية، وتحديداً الإيرانية، بل تنطلق وتتحكّم بها العوامل المصلحية والحسابات الداخلية والصراع على السلطة والمحاصصة. ولعلّ المؤشّر، الذي يساعد على فهم هذه التوجّهات، ما تشهده العملية السياسية من جهود تبذلها قوى وفصائل “الإطار التنسيقي” للانسجام والالتزام بمحدّدات واشنطن التي تراقب عن كثب الأنشطة السياسية والاقتصادية لهذه الفصائل والجماعات المحسوبة عليها وحجم الخدمات التي تقدّمها لإيران أو التي يستفيد منها النظام الإيراني في عملية الالتفاف على العقوبات المفروضة عليه. وهكذا باتت هذه القوى والفصائل هي الأحرص على عدم استثارة أيّ ردّ فعل أميركي أو الخروج على أجواء التوافق القائم بين واشنطن وطهران على إبعاد العراق عن دائرة الصراع أو التوتير.