لماذا انتحر ابن عمّتي.. موسى شامي؟

مدة القراءة 5 د

لم ينتحر موسى شامي بسبب عجزه عن شراء رغيف خبز، أو بسبب عدم قدرته على تأمين علبة حليب. لم يكن محتاجاً إلى حدّ الجوع. ولم يكن ذليلاً كما هو حال مئات آلاف اللبنانيين. لكنّه، مثل ملايين اللبنانيين، فقدَ الكثير من عزّة نفسه في السنوات الأخيرة. وتدرّج في القهر، حتّى باتت الرصاصة في الرأس هي الحلّ الأخير.

لحظة وصولنا إلى مدافن بلدتي جرجوع في إقليم التفّاح، حيث كان الصمت سيّد الموقف، رحتُ أبحث في عيون الكثيرين من أبناء البلدة والمحبّين عن موسى.

في مشهد شبه سينمائي، وقف مئات الحاضرين والوافدين، في سكون مريب، وقد صفعتهم الصدمة، وراحوا ينظرون غير مصدّقين كالمستيقظ من كابوس ما زال يسأل نفسه: أحلم هذا أم حقيقة؟

عرفت موسى منذ ولادته، وهو الابن الأصغر لابنة عمّتي. يصغرني بنحو عشرين عاماً. هو رفيق الكبير والصغير، مدلّل العائلة، مركز انتباه الجميع، لطيف ودود، يتنقّل بين الأقارب من دار إلى دار فيحظى باحترامهم واهتمامهم.

لم يُوفّق موسى بعدما ترك الجيش. لم يجد سبيلاً يسلكه ويُخرجه من أسر هذا الوطن المريض

القرية كلّها بيته ومسرحه. وربّما فائض الحب والعاطفة الذي حظي به من محيطه، صعّب عليه قسوة الحياة حتى استحال عليه تحمّل أعبائها.

التحق موسى بالجيش، واتّفق أنّ مركز خدمته تعمل فيه زوجتي، الأمر الذي أعاد التواصل اليومي بيننا وقرّب المسافات التي أبعدتها ظروف الحياة والعمل، فتعرّفت عليه من جديد، فإذا هو رجل ناضج دمث الأخلاق، كثير الأصحاب، كريم النفس. في هذه الفترة تزوّج موسى وأنجب طفلته وكانت الحياة لا تزال ممكنة بالنسبة إليه.

 

بداية الأزمة.. والمهانة

حين بدأت الأزمة المالية الاقتصادية تفتك بالجميع، وبدأت الانهيارات تتتالى فوق رؤوسنا، شعر موسى بصعوبة الموقف وقرّر ترك وظيفته والبحث عن وسيلة يغادر من خلالها الوطن إلى بلاد الله الواسعة، علّه يجد رزقه الذي ضاق في بلادنا.

لم يُوفّق موسى بعدما ترك الجيش. لم يجد سبيلاً يسلكه ويُخرجه من أسر هذا الوطن المريض. وبعد عناء طويل في السعي إلى سفر من دون جدوى، استسلم وراح يبحث عن فرصة عمل في جنوب لبنان قد تشكّل حلّاً لأزمته وتؤمّن ما يلزم للعيش وعائلته بكرامة، فتنقّل بين أكثر من وظيفة وفي أكثر من مجال، وكانت دائماً حاجاته وأحلامه أكبر من المستطاع، فيما الهمّ المعيشي ظلّ شريكه الدائم.

التقيت موسى قبل أسابيع، وأخبرني أنّه ينوي افتتاح مطعم خاصّ به في مدينة صور، آملاً أن ينهي محنته، التي لم أدرك تفاصيلها وحجم تأثيرها عليه حتى لحظة كتابة هذه السطور. ووعد زوجتي بزيارتها في اليوم التالي في مركز عملها كي يلقي السلام على زملائه الذين اشتاق إليهم.

تقول زوجتي عايدة إنّ زيارته لمركز عمله السابق قبل أيام لم تكن عاديّة، بل كانت الأجواء احتفالية احتفاء بقدومه. أمضى نهاره يتنقّل من مكتب إلى آخر، فأكل عند فلان وتناول حلوى عند آخر، وارتشف القهوة مع الجميع. هكذا كان يعيش وهكذا كان موسى.

وجد موسى نفسه بين سلّة الانتحار وذلّة الحياة، فأطلق النار على نفسه حاسماً النقاش، ومهوّناً على المحازبين العناء

لحظة الموت

وصل خبر وفاته إلى زملائه بعد أيام، فحوّل القسم إلى مجلس عزاء كبير، وحين زارهم لم يعرفوا أنّها زيارة الوداع. فُجعوا بوفاته كأنّهم خسروا أحد أفراد عائلتهم، وبدا حزنهم كبيراً بحجم حبّهم لموسى.

لم ندرك، نحن المحيطين بموسى، ما كان يوجع قلبه، ولم يحسب أخوة موسى أو أهله أو أصدقاؤه المقرّبون أنّ أزمته كانت تخنقه فيما هو لا يبوح باختناقه لأحد.

في بلاد الله الواسعة، في زمن الأزمات، يتظاهر أمثال موسى، يعترضون، ينظّمون تجمّعات ويهتفون ضدّ السلطة، كما كانوا يفعلون خلال ثورة 17 تشرين.

لكن في جنوب لبنان الضيّق، فإنّ الاعتراض جريمة، والمعترضون “عملاء” يحاصرهم المحازبون، ويهدّدهم الحاكمون، ويلاحقهم عسس الأحزاب.

وجد موسى نفسه بين سلّة الانتحار وذلّة الحياة، فأطلق النار على نفسه حاسماً النقاش، ومهوّناً على المحازبين العناء.

ملايين اللبنانيين مثل موسى، وربّما لم يجوعوا بعد، لكنّهم فقدوا الأمان، التعليمي أو الصحّي، وفقدوا قدراتهم على الفرح، على الكرَم، على التنزّه، على أكل ما يريدون ساعة يريدون.

موسى متزوّج من امرأة عاملة، ولديه منزل وسيارة. لم يكن جائعاً بالمعنى الحرفي، لكنّ الأزمة أذلّت نفوساً وقهرت رجالاً ونساءً وأطفالاً.

في النهاية، لم يبقَ أمام أتراب موسى سوى الهجرة أو الانتحار: هجرة تعزّ على أهل الجنوب بعد ندرة الدول التي ترضى استقبالهم، أو انتحار جماعي في مراكب موت، أو رصاصة في الرأس تضيف اسماً على اللائحة.

إقرأ أيضاً: عبد الكريم ضاهر: أوّل “شهداء الجوع” الشيعيّ..

اللائحة تطول: موسى الشامي من جرجوع، وحسين مروة من الزرارية، ومحمد إبراهيم من الوردانية، وعلي بوحمدان من البقاع. أربعة في أسبوع واحد، من بيئة واحدة، قرّروا أن يغادروا، برصاصة في الرأس.

وداعاً يا موسى، منّا نحن الذين امتلأنا بكلّ أسباب الانتحار، ولا نزال نعدّ إلى المليون، قبل أن نلحق بكَ وبرفاقكَ.

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…