عبد الكريم ضاهر: أوّل “شهداء الجوع” الشيعيّ..

مدة القراءة 5 د

“عُثِرَ عليه جثّة هامدة، متجمّدة من الصقيع، في غابة على حدود بلغاريا قبل أسبوعين”

21 كانون الأوّل 2022

 

هو شابّ من جيل الانتصارات. ولد في صور سنة  1996، عام “حرب نيسان”، وعناقيد الغضب ومجزرة قانا. وكَبُرَ بين أعوام المقاومة في التسعينيات وبين تحرير الجنوب في عام 2000، وبين الانتصار الإلهي في 2006 والانتصار على اللبنانيين وتثبيت شوكة طائفته في بيروت في 7 أيار 2008.

هو من جيل “التحرير”. كان عمره 4 سنوات في 25 أيار 2000 يوم تحرّر الجنوب. وأتمّ عامه العاشر حين “هزمنا إسرائيل” في 2006. وبدأ مراهقته (12 عاماً) في 7 أيار 2008 حين اجتاح حزب الله بيروت ليواجه بسلاحه أهلها. وكان على أبواب الشباب (15 عاماً) في 2011، حين بدأت حملة الهجوم على سوريا لحماية نظام بشار الأسد.

حين بدأت ثورة 17 تشرين في 2019 كان عمره 23. يومها نزل أقرانه إلى جسر الرينغ وهتفوا “شيعة شيعة شيعة” في مواجهة الجائعين… وضرب أبناء مدينته والقرى المجاورة ثوّارَ صور وكفررمّان وبنت جبيل، الذين خرجوا وحناجرهم تصدح بوجه الفقر.

هل قتله الصقيع والمهرّبون الفاسدون؟ أليس المذنب الحقيقي هو “المُطفِّش”؟ من طفّشه. من طرده. من رماه بين يدي المهرّب الفاسد

شابّ لبناني أوّلاً، جنوبيّ ثانياً، وشيعيّ ثالثاً، يختصر في حكايته سيرة جيلٍ كاملٍ من أبناء الجنوب، الذين رفعتهم أحزاب الحركة الوطنية في الستّينيات والسبعينيات من الحرمان إلى التعبئة السياسية والانفتاح الاجتماعي، وصنع منهم الحزب الشيوعي مقاومين ودكاترة ومعلّمين، وبثّت فيهم الأحزاب العروبية أفكار الانتماء إلى الوطن العربي، وأدخلتهم حركة أمل إلى مؤسسات الدولة في التسعينيات، ثمّ جاء الحزب الحاكم ليعيدهم مقاتلين، وينشرهم ليواجهوا الشعوب الشقيقة في بلاد العرب الواسعة.

لم يكن أهل الجنوب يوماً محرومين إلى درجة الموت من الصقيع في غابات أوروبا. كان “الوعد” أن “نحكم العالم”. فبعد سوريا واليمن والعراق وغيرها من دول العرب التي “غزاها” شبّان من جنوب لبنان وبقاعه ومن ضاحية بيروت الجنوبية، لم يخبرنا أحد أنّ شبّاننا سيموتون من الصقيع، في غابات أوروبا، وهم يحاولون “العبور” إلى بلاد “الرجل الأبيض” بحثاً عن لقمة، وحياة كريمة وعزيزة.

عبد الكريم ضاهر هو أوّل “شهداء الجوع”، سقط على الطريق إلى أوروبا، في غابة بلغارية، حيث كان يركض هارباً من بلاد الانتصارات، ومن تخمة العزّة، ليبحث عن كرامته في أوروبا.

ابن مدينة صور، مهد إليسار ملكة قرطاج، ومدينة الإمام موسى الصدر وأبنائها الذين “كموج البحر”، مات وهو لا يملك منزلاً في مدينته.

قبل 3 أو 4 سنوات، نزحت أمّه وأخواته الخمس من صور إلى بلدة حولا على الحدود، حصراً للنفقات. سكنّ في منزل قدّمه لهنّ ابن عمّ الوالدة.

لا بيت في صور لتتقبّل العائلة التعازي بـ”شهيد الجوع”. شقيقاه يسكنان غرفةً في صور، حيث يعملان مقابل أجور ضئيلة حالهم كحال اللبنانيين.

باع كلّ أغراضه وبسطة خضار كان يعمل عليها، وأرسل زوجته وابنته التي عمرها أشهر فقط، إلى بيت أهلها. جمع بضعة آلاف من الدولارات من بيع المنزل، وذهب في رحلة يأس، من تركيا إلى بلغاريا، أملاً في الوصول إلى فرنسا ليطلب اللجوء.

يقول الخبر في إعلام الحزب: “قتله الصقيع على مذبح الحلم الأوروبي”.

على عائلة عبد الكريم أن تعرف أنّ المجرمين سيكونون أوّل المعزّين، وآخر المغادرين من الحسينية

فعلاً؟

لكن من أرسله إلى الصقيع؟

من جعل أحلام شباب الجنوب تقع بهم بين سَلّة الحروب وذِلّة الموت في الصقيع؟ ومن أخذه إلى حدود بلغاريا وغاباتها؟ من جرّه إلى الموت؟ من تركنا على مذابح أحلام أوروبا؟

هل قتله الصقيع فعلاً؟ أم قتله الممسكون بمصيره داخل الطائفة وفي قيادتها وعلى رأس السلطات في لبنان؟ 

هل قتله الصقيع والمهرّبون الفاسدون؟

عائلته تريد أن ترفع دعوى ضدّ المهرّب الذي تتّهمه بسرقته وقتله.

لكن هل هو ذنب المهرّب فقط؟

أليس المذنب الحقيقي هو “المُطفِّش”؟ من طفّشه. من طرده. من رماه بين يدي المهرّب الفاسد. هؤلاء هل ستطالهم يد العدالة؟ أليسوا هم القضاء وهم القدر؟

“عثروا عليه متجمّداً في غابة بلغارية”. ما أقساه من مصير. كيف لفظ آخر أنفاسه؟ وكم هو معبّر هذا الصقيع. لكنّه لم يبرد في أوروبا. بدأ البرد حين عجز الجنوب عن تدفئته. حين عجزت “الكرامة” الإعلامية أن تحفظ عزّته. حين لم يعد قادراً على إعالة ابنته وأن يدفئها بذراعيه. 

إقرأ أيضاً: نريد رئيساً لا يطعن أولادنا في ظهورهم

يقول الخبر إنّ قوى الأمر الواقع تتسابق لاستعادة الجثّة. وسيخرجون ليندّدوا ويطلبوا من القضاء البلغاري توقيف المهرّبين.

على عائلة عبد الكريم أن تعرف أنّ المجرمين سيكونون أوّل المعزّين، وآخر المغادرين من الحسينية. ولن تستطيع أيّ عدالة أن تحاسبهم. لأنّهم سيستمرّون في إقناع رفاق عبد الكريم وأبناء جيله، بأنّنا سنخرج لنحكم العالم، في حين يموت شبّاننا، من سوريا واليمن والعراق، إلى صقيع غابات أوروبا.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…