تحتلّ القدس مكانة القلب في فلسطين. تتوسّط جغرافيّتها وتمتدّ شرايينها إلى باقي أجزاء الوطن كامتدادها في الجسد الآدميّ.
من أيّ نقطة في فلسطين بوسع من يزورها أن يقطع المسافة إليها، كما تُقطع المسافة بين حيّ وآخر في مدينة كبرى.
توازي هذه المكانة الجغرافية العبقرية مكانتها الروحية المعنوية. ففيها الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وفيها كنيسة القيامة أحد أهم المواقع الدينية والتاريخية والكونية، وعلى مرمى حجر تقع الكنيسة الأقدم كنيسة “المهد” والمسجد الأقدم المسجد “الإبراهيمي”.
يعزّز هذه المكانة النسيج الاجتماعي المتعدّد، دينياً ووطنياً، فلا توجد عائلة فلسطينية ليس لها حضور في القدس، ولا تخلو المدينة من معلَم وممثّلين لكلّ الطوائف الذين تآلفوا في عيش مشترك على مدى حقبات التاريخ.
القدس الشرقية أو القدس الشريف هي بالفعل قلب وروح وعقل أهلها الفلسطينيين والعرب والعالم
أمّا أيّام الجُمَع فتجسّد ذروة الحضور الفلسطيني الشامل في مسجدها الأقصى. كذلك كنائسها فمن ينسى كيف كان وداع شيرين أبو عاقلة: تظاهرة مذهلة تجلّت فيها الوطنية الفلسطينية العابرة للطوائف كأبلغ رسالة وجّهها المقدسيون الفلسطينيون إلى العالم أجمع.
هذه هي القدس في وعينا وحياتنا، في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. هي ليست مدينة عاديّة كسائر المدن، أو قضية يجري حسمها بالقوّة العسكرية أو الماليّة. إنّها قلبٌ وعقلٌ وروحٌ ودمٌ ومركز حياة.
حين تكون القدس هكذا، فهل هنالك ما هو أشدّ جهالة وعبثيّة ممّا يفكّر فيه ويفعله محتلّوها.. الذين يسعون إلى نزع هويّتها الأصليّة، واستبدالها بهويّة مزوّرة، وتحويل تاريخها العريق إلى رواية ساذجة يجسّدها عنصريّو العصر: سموتريتش وبن غفير ومن يحرّكهما ويحميهما وينفق على سعيهما المستحيل مليارات الدولارات؟
القدس الشرقية: روح العرب
القدس الشرقية أو القدس الشريف هي بالفعل قلب وروح وعقل أهلها الفلسطينيين والعرب والعالم.
يجسّد الصراع عليها اختزالاً للصراع على مستقبل المنطقة. ومهما بلغت التسويات المقترحة من مستوى، ومهما كان من يقف وراءها، تظلّ مستحيلة التحقّق إذا لم يرضَ عنها الفلسطينيون والعرب أوّلاً، وباقي المعترفين بحقوق الفلسطينيين المشروعة ومكانتها الفعلية في أمن المنطقة واستقرارها.
لكي لا يكون ما أقول مجرّد كلام نظري أو رغائبي فإنّ الصدقية العملية له تكمن في الإجابة عن أسئلة تقرّر الحقيقة الموضوعية.
السؤال الأول: أين ذهبت وماذا حقّقت المليارات التي أُنفقت على تهويدها واجتثاث جذور أهلها الفلسطينيين؟ سواء داخل الكيلومتر المربّع الواقع داخل السور التاريخي الذي بناه سليمان القانوني، أو في رحاب الساحة التاريخية التي يزيّنها الأقصى والصخرة وما فوقها وتحتها من معالم تراثية تشهد على هويّتها وانتمائها.
السؤال الثاني: ماذا حقّق حارقو الأقصى؟ المكان الذي صلّى فيه عمر بن الخطاب. وماذا أنجز واضعو الكاميرات والمتاريس الفولاذية والمكعّبات الإسمنتية التي حوّلت “القدس الموحّدة” إسرائيلياً إلى ثكنة عسكرية لا يتجوّل فيها ليلاً ونهاراً غير المسلّحين؟
السؤال الثالث: إلى أين ذهبت صفقة قرن دونالد ترامب؟ التي زوّرت القدس بخريطة على الورق رسمها المتحايل بنيامين نتانياهو. فإذا بالصفقة لم تعِش لحظة واحدة لأنّها كانت عملة باطلة لم يتداولها أحد؟
إقرأ أيضاً: السلطة الفلسطينيّة: استثمار أميركيّ متعثّر
صحيح أنّ ما يقدَّم للقدس لا يكفي ولا يوازي مكانتها وعمق تأثيرها في الحاضر والمستقبل.
وصحيح أيضاً أنّها والمرابطين فيها بحاجة إلى الكثير، لا ليصمدوا فقط، فهم صامدون بأقلّ القليل، لكن كي يتصبّروا.
لكنّ الصحيح أكثر أنّ القدس هي حاضر ومستقبل المنطقة ومنها يتحقّق السلام أو تتواصل الحرب.