“القرض الحسن”… مصرفاً مركزيّاً موازياً

مدة القراءة 6 د

هل “مؤسسة القرض الحسن” جمعية؟ كيف أصبحت اقتصاداً موازياً؟ هل من علاقة بين تمدّد القرض الحسن وشلل وانهيار النظام المالي والمصرفي اللبناني؟ أين تكمن المخالفات القانونية؟ لمصلحة من تفتيت النظام المالي والمصرفي؟ ولماذا إدخال البلاد في عزلة خانقة؟

 

أقوال ووقائع

تعترف “مؤسسة القرض الحسن” على لسان مسؤوليها بأنّها جمعية اجتماعية خيرية وليست مؤسّسة ماليّة. يتمحور نشاطها حول جذب المساهمات وجمع التبرّعات من أصحاب الخير وتوزيعها. وهذا، حسب أقوالهم، لمساعدة الناس المحتاجين. لكنّ الفرق كبير جدّاً بين أقوالهم وممارساتهم في الواقع.

أسّس حزب الله “جمعية القرض الحسن” في عام 1982 ضمن التوصيف الآتي: إنّها اجتماعية خيرية تبتغي العمل الإنساني. ورخّصتها وزارة الداخلية في عام 1987 بموجب علم وخبر 217/أ.د.

في خضمّ هذه الأزمة، ومع توقّف المصارف عن ممارسة نشاطها الطبيعي بعد إساءتها الأمانة من خلال إضاعة الودائع وإخلالها بوعودها للمودعين، تمدّدت “جمعية القرض الحسن”

لا مشكلة مع القرض الحسن في كونه جمعية خيرية ومؤسّسة اجتماعية مثل أيّ مؤسّسة شبيهة أخرى. على العكس من ذلك، ولا تنبع المشكلة مع المؤسّسة من كونها تقدّم المساعدات أو التبرّعات، بل في تستّرها على القروض بالتبرّعات. وهذه مخالفة مشهودة للدستور والنصوص القانونية والتعاميم المالية، استفاد أصحابها من قوّة الأمر الواقع وحال الفوضى مكرّسين خريطة اقتصادية موازية تمعن بتقويض ما بقي من أعمدة الدولة واقتصادها.

استفادت المؤسّسة المذكورة من الواقع اللبناني الرديء، ومن احتيالها على القانون وثغراته، خصوصاً عندما تتحدّث عن أنّ القرض الحسن مؤسّسة للمساهمات وليس للودائع، أي أنّ المتعاملين معها مساهمون وليسوا مودعين. وهذا يقودنا إلى تلاعب حتميّ بالتسمية ومضمونها الأساسي.

 

تمدُّد القرض الحسن الجغرافيّ

في خضمّ هذه الأزمة، ومع توقّف المصارف عن ممارسة نشاطها الطبيعي بعد إساءتها الأمانة من خلال إضاعة الودائع وإخلالها بوعودها للمودعين، تمدّدت “جمعية القرض الحسن”، فأنشأت أكثر من 30 فرعاً، بعد إقفال البنوك عدداً من فروعها في المناطق اللبنانية.

أصبح “القرض الحسن” المؤسّسة الماليّة الوحيدة التي توفّر قروضاً بالعملات الصعبة بالتوازي مع توقّف المصارف الشرعية عن توفيرها. وأضحت أيضاً الجهة الوحيدة التي تقوم بهذا الدور، بعد اختفاء السيولة من المصارف الشرعية، وزوال الثقة بها.

حصل التخلّف إثر التعثّر في دفع الديون السيادية بقرار من مجلس الوزراء في حكومة الرئيس حسّان دياب. وبعدم دخول حكومة حسان دياب في مفاوضات ومحادثات لتنظيم هذا التخلّف، أضاعت البوصلة المهنية والتنفيذية وأعلنت الإفلاس من دون توضيح أسبابه، بدل الاتفاق ضمناً على جدولة جديدة مع الجهات الدائنة. وحصل الانهيار في النظام المالي والنقدي. وتدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار. وفُقدت الثقة بالدولة اللبنانية. وتراجعت التصنيفات الائتمانية وجُفّفت السيولة. وكان هذا كلّه لصالح مؤسّسة القرض الحسن التي أُلبست لبوس البنوك التجارية التي حُوّلت إلى مكاتب صرافة فقط.

أصبح “القرض الحسن” المؤسّسة الماليّة الوحيدة التي توفّر قروضاً بالعملات الصعبة بالتوازي مع توقّف المصارف الشرعية عن توفيرها

مخالفات قانونيّة وتحرُّر من الرقابة

باتت مؤسّسة القرض الحسن جزءاً من السوق السوداء المضاربة لأنّها الجهة الوحيدة اللامصرفية التي تضخّ الدولار الطازج في السوق اللبنانية. اعتمدت خدمة الصرّاف الآلي ATM في فروعها. وهي تقوم بالعمليات المصرفية الطبيعية وكأنّها بنك تجاري. وهذه مخالفة واضحة للقوانين الآتية:

– قانون العقوبات اللبناني.

– قانون النقد والتسليف رقم 13513.

– قانون رقم 44 لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

– قانون تنظيم الصرّاف الآلي والقانون رقم 33/99 الصادر الذي وسّع مهمّة مصرف لبنان.

– القرار رقم 7299 المتعلّق بالصرّاف الآلي وبطاقات الائتمان.

– اتفاقية الحيطة والحذر التي ثبّتت مبدأ “إعرف زبونك”، وحدّدت صاحب الحقّ الاقتصادي وعمليات تدريب الموظفين ومراقبة العمليات وخصائصها.

– اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتّجار غير المشروع بالمخدّرات والمؤثّرات العقلية.

– اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

– الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب.

– اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظّمة.

 

غياب مصرف لبنان

عدم وجود رقابة من المصرف المركزي ولا من هيئة الرقابة على المصارف، يجعل مؤسّسة القرض الحسن ماكينة ماليّة ونقدية مبهمة ومشبوهة، خصوصاً أنّ هويّة أصحاب إيداعاتها مجهولة من الجهات الرسمية.

تحوّلت المؤسّسة إلى شخصية مالية اعتبارية واقعية وغير شرعية. وأضحت عصباً في الاقتصاد الموازي المستقلّ عن الهيكل الاقتصادي الطبيعي. فهي لا تتبع للمصرف المركزي. وتهدّد الاستقرار النقدي والمالي اللبناني. وأصبحت كياناً نقدياً غير مرئيّ ومسهّلاً للمخالفات، ولا من قدرة رسمية على التحكّم به، بل على العكس تنتقل إليها الأموال بشكل مبهم من دون معرفة مصدرها وبتواطؤ مع بعض الجهات الرسمية. وربّما هي أموال غير مشروعة إلى حين التصريح وإثبات العكس.

إنّها بيئة ملائمة ومناسبة لكلّ العمليات غير الشرعية مثل التهرّب المالي والضريبي وتبييض الأموال، اعتماداً على حسابات وهمية.

انطلاقاً من كونها جمعيّة لا مؤسّسة مالية، تخالف مؤسسة القرض الحسن قواعد القانون رقم 44 الذي صدر بتاريخ 24/11/2015 ويفرض على أيّ جهة ماليّة تريد إجراء عمليات مصرفية أن تُسجَّل وتخضع لرقابة مصرف لبنان.

لا سلطة للمصرف المركزي على جمعية القرض الحسن، ولا يحقّ لها بالتالي الولوج في النظام المصرفي والنقدي. ففي أيّ نظام مالي ونقدي تعمل؟ من يراقبها؟ ولأيّ قضاء تخضع؟

الواضح أنّ عملها غير شرعي وأموالها مجهولة المصدر ومشبوهة وتتهرّب من العقوبات، وتخرج على النظام الاقتصادي المراقَب والمشروع، وتنغمس في “اقتصاد الكاش” غير الواضح المصدر. وهذا كلّه خطر داهم على سمعة لبنان عالمياً.

 

لبنان على القائمة الرماديّة؟

بات لبنان معرّضاً لخطر وضعه على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالية الدولية (فاتف) التي تولّد تعقيدات جمّة في تقنيّة العمليات المالية عبر الحدود وشبكة العلاقات مع البنوك المراسلة. وتؤثّر تداعياتها على قدرة الدولة على ضبط عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، مع ازدهار مفهوم اقتصاد الشنطة وعمليات التهريب الحدودية، الذي يُعتبر النشاط المخالف لتعاميم بازل الدولية.

إقرأ أيضاً: القرض الحسن: 7 أيّار مالي.. مع شرعية شعبية

وفيما ينهار الاقتصاد الرسمي ويتدمّر النظام المصرفي والمالي… تزدهر مؤسّسة القرض الحسن الغامضة. ونلاحظ أنّ الاقتصاد الأسود يتمدّد جغرافياً وينتشر سلوكياً وواقعياً. وقد تحوّلت البلاد إلى غسّالة كبرى لتبييض الأموال لمصلحة الكيانات المشبوهة.

لقد أضحت جمعية القرض الحسن مؤسّسة للاقتصاد الموازي ووسيلة للهروب من العقوبات الدولية الأميركية والأوروبية والعربية، وطريقة لاستبدال النظام الحالي بنموذج جديد عبر الاستنزاف.

فهل تتحوّل جمعية القرض الحسن إلى مصرف مركزي موازٍ في لبنان؟

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…