تنظيم القاعدة هو التنظيم الدولي لجماعة الجهاد المصرية، ولا جديد في الإطار الفكري أو الحركي أضافه أسامة بن لادن، بل جاء زعيماً على جماعة جاهزة أيديولوجيّاً وتنظيمياً. مضى هو على خطاها ولم تمضِ هي على خطاه.
كان أيمن الظواهري إخوانيّاً، ثمّ انتزعته جماعة الجهاد من الإخوان، وكان بن لادن إخوانيّاً، ثمّ انتزعه الظواهري من جماعة الإخوان.
أصبح الإخوانيان السابقان جهاديَّين، ولمّا كانت جماعة الجهاد مصريّة، وقد أصبح “النجمان الجديدان” يلعبان في “كأس العالم للإرهاب”، فقد اتّفقا على عولمة الجماعة، واتّخاذ اسم جديد هو “جماعة القاعدة”.
وهكذا فإنّ “القاعدة” هي الموجة الثالثة لبن لادن – الظواهري، إذ كانت جماعة الإخوان الموجة الأولى، وجماعة الجهاد الموجة الثانية.
ثمّة تشابه في الاسم بين نجم كرة القدم العالمي محمد صلاح، وزعيم تنظيم القاعدة الجديد محمد صلاح الدين زيدان
المنوفيّة – أفغانستان.. رحلة الرجل الثالث
لم يكن هناك جدل بشأن الرجل الثاني في “القاعدة”، فهو من دون شكّ أيمن الظواهري، لكنّ الجدل كان بشأن الرجل الثالث، ذلك أنّ القادة التاريخيين لـ”القاعدة” هم كُثُر، والمنافسة بينهم شديدة، كما أنّ الانشقاقات كانت متتالية. لكنّ مصريّاً قادماً من محافظة المنوفيّة في دلتا مصر استطاع أن يكون الرجل الثالث، ثمّ أضحى في شباط 2023 الرجل الأوّل والزعيم الثالث للقاعدة.
ثمّة تشابه في الاسم بين نجم كرة القدم العالمي محمد صلاح، وزعيم تنظيم القاعدة الجديد محمد صلاح الدين زيدان. لكنّ نجم نادي ليفربول خدم الإسلام بطريق القوّة الناعمة، وأمّا زعيم “القاعدة” فقد قتل من المسلمين وغير المسلمين ما يصعب عدّه، بعدما قطع مشواراً طويلاً في رحلة الدم.
تخرّج محمد صلاح الدين زيدان في كلّية التجارة، ثمّ التحق بالخدمة العسكرية، حيث أصبح ضابط احتياط بالجيش المصري. تقول مصادر عديدة إنّ زعيم “القاعدة” الجديد قد عمل مقدَّماً في القوات الخاصة بالجيش المصري، وهذه معلومات غير دقيقة، إذْ لا يصل ضباط الاحتياط إلى هذه الرتبة إلّا نادراً، كما أنّ مغادرة محمد صلاح الدين زيدان مصر إلى أفغانستان كانت عام 1988، وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، وقبل ذلك جرى اتّهامه في قضية محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري حسن أبو باشا ضمن إحدى مجموعات التنظيم، التي تسمّى “الناجون من النار”. وهي المجموعة التي حاولت اغتيال الكاتب الصحافي المصري مكرم محمد أحمد.
كان محمد صلاح الدين زيدان وقت تلك القضية في السابعة والعشرين من عمره. والأرجح أنّه قضى 3 سنوات فقط ضابط احتياط في الجيش المصري، وغادره برتبة ملازم أوّل في عام 1985 وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
وجاء سيف العدل
بدأ محمد صلاح الدين زيدان من أعلى، فقد عمل مباشرة مع أسامة بن لادن منذ سفره إلى أفغانستان عام 1988. وأصبح اسمه “سيف العدل”، وله اسم آخر هو “عابر سبيل”، لكنّ الاسم الأشهر هو “سيف العدل”.
وثق أسامة بن لادن بـ”سيف العدل” ثقة كبيرة، وقد أدّى زواج سيف العدل من ابنة مصطفى حامد، الذي يوصف بأنّه “المستشار السياسي لبن لادن”، إلى تعزيز مكانته في التنظيم.
لقد ساهم بن لادن ومستشاره في تصعيد سيف العدل إلى ما يمكن تسميته “المبعوث الخاص” بعد إيفاده إلى اليمن والصومال وباكستان. وهو ما أسّس علاقات قويّة لسيف العدل بقادة الفروع في التنظيم الإرهابي، فصار على صلة مباشرة بالكثير من إرهابيّي إفريقيا وآسيا والعالم العربي.
الإرهابيّ المتّهم في كلّ شيء
جاء اسم سيف العدل في كثير من الاتهامات الأميركية، فهو متّهم بتدريب المختطِفين للطائرات في أحداث 11 أيلول المأساوية في واشنطن ونيويورك عام 2001. وهو متهم أيضاً في حادث تفجير سفارتَيْ الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا، حيث قُتِل أكثر من 200 شخص وأُصيب أكثر من خمسة آلاف.
تتّهم واشنطن سيف العدل أيضاً بالوقوف وراء حادث تفجير المدمّرة كول ومقتل 17 جندياً أميركياً، وإسقاط مروحيّتين أميركيتين في الصومال ومقتل 18 جندياً، وهو الحادث الذي أدّى إلى مغادرة الأمم المتحدة والولايات المتحدة الصومال. وهو متّهم في قضية خطف الصحافي الأميركي دانيال بيرل في باكستان وإعدامه عام 2002.
رصدت واشنطن 10 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عن الرجل المتّهم في كلّ شيء، لكنّ المفاجأة أنّ سيف العدل ظلّ على قيد الحياة، بل وأصبح قائداً للتنظيم، على الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، ومقتل أسامة بن لادن عام 2011، ومقتل الظواهري في 2022. تقول واشنطن إنّ السرّ يكمن في إيران.
سلفيّون جهاديّون في بلاد ولاية الفقيه
تتّخذ السلفية الجهادية موقفاً عدائياً من الشيعة، من دون تمييز، وهو عداء للمذهب بغضّ النظر عن السياسة أو السلوك. وهو موقف متطرّف لا يقرّه المسلمون السُّنّة ولا الأزهر الشريف.
بدورهم يرى الأصوليون الشيعة في السلفية بمدارسها المختلفة العدوّ الإيديولوجي الأكبر، وهي عدوّ أخطر، في تقديرهم، من أميركا وإسرائيل.
إذا كانت هذه القاعدة، فإنّ حجم الاستثناء فيها مذهل جدّاً. كانت المفاجأة الأولى حين كشفت صحيفة “الغارديان” عن انتماء السيّدة علياء الغانم والدة أسامة بن لادن إلى الطائفة العلوية السورية، وحديث السيدة علياء عن علاقتها المتميّزة مع ابنها حتى وهو زعيم لـ”القاعدة”.
ثمّ كانت المفاجأة التالية، وهي امتداد للمفاجأة الأولى، هي لجوء حمزة بن لادن إلى إيران، خوفاً من الولايات المتحدة، وبقاءه فيها هو وعائلته عدّة سنوات.
ثمّ ها هي المفاجأة الثالثة، إذْ يعيش الزعيم الثالث لـ”القاعدة” في إيران، وهو أمر معروف منذ سنوات، لكنّ الأمم المتحدة أكّدت الأمر من جديد، وهو التأكيد الذي أيّدته واشنطن.
ثمّة عشرات من الصفوف الأولى في “القاعدة” يعيشون في إيران، ومنهم مصطفى حامد (حمو سيف العدل) ووليد مصطفى حامد شقيق زوجة سيف العدل، وقادة آخرون.
كان أيمن الظواهري إخوانيّاً، ثمّ انتزعته جماعة الجهاد من الإخوان، وكان بن لادن إخوانيّاً، ثمّ انتزعه الظواهري من جماعة الإخوان
“القاعدة” عند مفترق طرق
لقد قضيت عدّة ساعات في قراءة أجزاء من كتاب سيف العدل “الأمن والاستخبارات”، وهو كتاب ضمن مؤلفات زعيم “القاعدة” الجديد، التي تدور كلّها حول “الأمن” و”الدفاع” و”الاستخبارات”.
إنّه كتاب جدير بالقراءة للباحثين والدارسين وخبراء الأمن، فهو يشرح بشكل جادّ جدّاً نظرية الأمن لدى الجهاديين. قام سيف العدل بتقمّص شخصية بريجينسكي وراح يتحدّث في كلّ جوانب “الأمن القومي” للإرهابيين.
في تنظيم القاعدة من يعترض على سيف العدل، وفيهم من يفضِّل المنافس المغربي عبد الرحمن المراكشي رئيس مؤسّسة السحاب، الجناح الإعلامي لـ”القاعدة” وزوج ابنة أيمن الظواهري.
في “القاعدة” أيضاً من يتحفّظ على أن يكون الزعيم مقيماً في إيران، لكنّ علاقات سيف العدل، وسطوته على مجلس الشورى في “القاعدة”، تجعله الأقوى على الرغم من التحدّيات.
لم يعد التنظيم كما كان، فالأعداد تراجعت أمام تنظيم داعش، والتفكّك طال الجماعة في زمن الظواهري، والأموال التي كانت تتدفّق في السابق تراجعت عمّا كانت. لكن لا يزال لدى التنظيم أكثر من 30 ألف شخص، وخبرة سيف العدل أعلى من خبرة الظواهري، وربّما يستطيع إعادة إحياء عمليات التنظيم الإرهابية الخطيرة من جديد.
حسب صحيفة “ديلي تليغراف” أقنعت إيران قادة “القاعدة” الذين لجأوا إليها من قبل بمبايعة سيف العدل.
هكذا سيكون الزعيم الجديد لـ”القاعدة” زعيماً لتنظيم سنّيّ متطرّف، برعاية إيرانية، وهو ما يبيّن لقاء “إيديولوجية الخلافة” مع “إيديولوجية ولاية الفقيه” في سياق واحد.
الزعيم الأخير
إذا كانت لـ”القاعدة” علاقاتها بإيران، فإنّ علاقاتها مع طالبان تشهد تراجعاً، والأرجح أنّ طالبان هي التي “باعت” أيمن الظواهري للأميركيين، إذ لا ترغب طالبان في أن يورّطها “القاعدة” في كارثة أخرى تعيدها إلى الوراء.
هل يستطيع سيف العدل أن يعتمد على إيران وحدها؟ وهل يمكنه فعل شيء من دون رضا طالبان؟ وهل يقدِم على مواجهة “داعش” في أفغانستان (تنظيم خراسان) كهديّة إلى طالبان، مقابل السماح له بالعمل خارج أفغانستان؟
إقرأ أيضاً: إخوان اليوم: مرشدون يتصارعون.. وقادة مترفون.. وشباب ينتحرون
لدى إيران علاقات تاريخية مع السلفية الجهادية تدعو للدهشة، فقد كان نواب صفوي صديقاً لسيد قطب وزاره في مصر. كما أنّ المرشد الأعلى علي خامنئي حصل على درجة الماجستير عن رسالته حول سيد قطب، وقد أطلق الخميني اسم خالد الإسلامبولي أحد قتلة أنور السادات على شارع في طهران.
حين يلجأ نجل أسامة بن لادن ومستشاره ونجل مستشاره، والزعيم الثالث لـ”القاعدة” إلى إيران لأجل الحماية والرعاية، فلا يعد الأمر غريباً تماماً. لقد لجأوا إلى مكان صديق يعرفهم ويعرفونه.
وكأنّ طهران تقول: بضاعتنا رُدّت إلينا!
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@