وَهْم أنّ “الوضع تحت السيطرة”!

مدة القراءة 5 د

في التاريخ المعاصر وَهم عظيم يقوم على قاعدة أنّ التحكّم بكلّ أشكال القوّة يؤدّي إلى التمكّن من إيصال البلاد، أيّ بلاد، والعباد، أيّ عباد، في أيّ زمان ومكان إلى وضع يُوصف بأنّه “تحت السيطرة”!

غالباً ما يكون الوضع الذي يُعتقد أنّه تحت السيطرة، والقائم على فرض الأمر الواقع بالقوّة الإجبارية، هو وضع مؤقّت وهشّ وقابل للانهيار، طال الزمان أو قصر.

وكان المفكّر العظيم مونتسكيو يقول: “السلطة القائمة على الرضا الشعبي والاختيار الجماهيري الحرّ هي المرجعية الضامنة للاستقرار”.

ثلث سكان العالم البالغ عددهم 7 مليارات و750 مليون نسمة، باتوا تحت خطّ الفقر، ونصف سكان العالم يعانون اليوم نقصاً في المياه النظيفة والغذاء الصحّي وفرص العمل

السيطرة والاستقرار

السيطرة بهذا المفهوم هي الاستقرار، والاستقرار يأتي من الرضا، والرضا يعبّر عن إرادة مجموع غالبية الشعب الذي يمتلك حقّ الاختيار وحقّ تقرير المصير وحقّ المشاركة الفعّالة والمتغلّبة في صناعة القرارات العليا المؤثّرة في واقعه ومستقبله.

بعض الأنظمة وقعت تاريخياً في سوء تقدير مفهوم “تحت السيطرة”.

هتلر كان يؤمن إيماناً راسخاً بأنّ بلاده وثلث العالم تحت السيطرة.

موسوليني كان يؤمن بأنّ المذهب الفاشي سيجعله المسيطر الأوّل والأوحد على إيطاليا.

صدّام حسين، معمّر القذّافي، علي عبد الله صالح، جعفر نميري وزين العابدين بن علي، رحمهم الله، كان لديهم ثقة مطلقة بأنّ سيطرتهم نهائية وأنّ الأوضاع كلّها “تحت السيطرة”.

واشنطن اعتقدت خاطئة بأنّها قادرة بالقوّة المسلّحة على السيطرة على فيتنام وإيران وأفغانستان وفنزويلا وكوبا و”القاعدة” و”داعش”.

تظاهرات الطلاب في فرنسا أثناء حكم شارل ديغول وتظاهرات نظرائهم في العام نفسه ضدّ أحكام الطيران في مصر، وتظاهرات أنصار الحقوق المدنية بزعامة مارتن لوثر كينغ أمام الكابيتول هيل في واشنطن، وتظاهرات التشيك والبولنديين والرومان ضدّ الأنظمة الشمولية، كلّها أثبتت أنّ “القوّة المفرطة” القائمة على فرض الأمر الواقع بالغلبة الأمنيّة هي حالة مؤقّتة ذات عمر افتراضي محدّد ومحدود، ومرتبط ليس بقوّة من يفرضها، بل بقدرة التحمّل لدى المفروضة عليه.

صراعات إقليمية كثيرة في العالم وفي الشرق الأوسط قيل عنها إنّها لا تدعو للقلق وإنّها “تحت السيطرة”.

واشنطن اعتقدت خاطئة بأنّها قادرة بالقوّة المسلّحة على السيطرة على فيتنام وإيران وأفغانستان وفنزويلا وكوبا و”القاعدة” و”داعش”

التعريف القاموسي

التعريف القاموسي السياسي لمصطلح “تحت السيطرة” (under control) يعني أنّ “الوضع تتمّ إدارته” أو أنّ “الأزمة أو الصراع يتمّ احتواؤه بنجاح”، وأنّ “حالة الخطر التي كان يشكّلها أصبحت الآن لا تشكّل خطراً”.

في قواميس أخرى يصبح المصطلح مرادفاً لحالة “الردع” أو “الضبط” أو “الكبح” أو “اللجم”.

يُستخدم المصطلح ليل نهار في كلّ أوجه حياتنا اليومية، سواء في الحرائق أو الأسعار أو النزاعات أو الخلافات الحدودية والطائفية والقبلية والتظاهرات الشعبية والفئوية.

في إيران خامنئي نسمع بيانات تقول إنّ “التظاهرات المدعوعة من الخونة في الداخل والأعداء في الخارج تحت السيطرة”.

في سوريا منذ اندلاع التظاهرات في “درعا”، وعلى الرغم من انقسام البلاد إلى 3 مناطق (سلطة ومعارضة وأكراد) ووجود جيوش لروسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا و62 ميليشيا ومرتزقة، نسمع من دمشق أنّ الوضع “تحت السيطرة”.

عدم الرضا، كما يقول الرأسمالي الأشهر ديفيد روكفلر، يؤدّي إلى التقدّم والإصلاح.

انفلات كوني

يواجه العالم الآن بشكل كوني حالة انفلات في شؤون البيئة والطاقة والأغذية والسلع الأساسية وسلاسل الإمداد.

بعد كارثتَيْ تكاليف جائحة كورونا وفاتورة الحرب الروسية الأوكرانية وارتباك علاقات مربّع الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يخرج العالم بالأرقام من حالة “تحت السيطرة”.

ثلث سكان العالم البالغ عددهم 7 مليارات و750 مليون نسمة، باتوا تحت خطّ الفقر، ونصف سكان العالم يعانون اليوم نقصاً في المياه النظيفة والغذاء الصحّي وفرص العمل.

بلغت فاتورة كورونا 3 تريليونات دولار، وبلغت فاتورة الحرب الروسية الأوكرانية في 12 شهراً 1.7 تريليون دولار، ولن يزيد معدّل النموّ الاقتصادي العالمي هذا العام على 2% فقط، وهناك تهديد وجودي للطبقة الوسطى وارتفاع متوقّع للتضخّم لا يقلّ عن 10%.

يخلق هذا كلّه حالة شديدة الخطورة لأيّ شعور بالرضا، ويهدّد الاستقرار العالمي ويصيبه في مقتل!

ولكن…

عدم الرضا الذي يصل إلى نقطة انكسار الثقة بالحكومة يظهر في الدول الديمقراطية الصناعية من خلال عدم تجديد التفويض الشعبي عبر الصندوق الانتخابي والانتقال السلمي السلس لاختيار حزب آخر كي يدير الحكم بطريقة مغايرة تحقّق رغبات الجماهير.

إقرأ أيضاً: من شكسبير إلى جماعة قاسم سليماني

في لبنان الآن مشروع مذهل مضادّ للعقل والمنطق والتاريخ والمصالح الوطنية يعتمد فلسفة أنّ الحكم لا يخدم مصالح الشعب، بل إنّ الشعب هو الذي يضحّي بكلّ شيء كي يحصل لوردات الطوائف على كلّ شيء، وبذلك يصبح الوضع بهذا المفهوم “تحت السيطرة”!

يقول الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: “المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، والصدق شفيعي”، صدق خليفة رسول الله.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…