تعذّر “تسوية خارجية”… يفجّر توتراً داخلياً

مدة القراءة 9 د

بات الفرقاء اللبنانيون متساوين في القدرة على التعطيل. هذا ما أفرزته معادلة التعادل السلبيّ في البرلمان جرّاء عدم قدرة أيّ من الأطراف على ضمان الأكثرية وعلى تجنّب الانتقال إلى الدورة الثانية من الاقتراع لانتخاب رئيس للجمهورية. يرفد الاستعصاء الداخلي في انتخاب رئيس، تراجعٌ في تمنّيات بعض فرقاء الداخل أن تنقذ البلد تسويةٌ ما على صعيد الإقليم، الذي تبيّن أنّه ذاهب نحو مزيد من التأزّم.

أبلغُ تعبير عن نعي التفاوض، وترحيل التسوية المزعومة إلى أجل غير مسمّى، مع استمرار تفاؤل البعض في فريق الممانعة بإمكان عقدها على شخص رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، نتيجة تفاهمات إقليمية يُعتقد أنّها آتية، هو إعلان الرئيس نبيه برّي أنّ “مرشّحنا سليمان فرنجية ومرشّحهم التجربة الأنبوبية”، الذي لقي ردود فعل عبّرت عن مدى التشنّج الذي يسود الساحة.

بات الفرقاء اللبنانيون متساوين في القدرة على التعطيل. هذا ما أفرزته معادلة التعادل السلبيّ في البرلمان جرّاء عدم قدرة أيّ من الأطراف على ضمان الأكثرية وعلى تجنّب الانتقال إلى الدورة الثانية من الاقتراع لانتخاب رئيس للجمهورية

لم يكتفِ رئيس البرلمان بإقفال الباب على التفاوض، بل تعدّاه إلى إسقاط ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون حين استبعد كلّياً إمكان تعديل الدستور من أجل انتخابه، في ظلّ حكومة مستقيلة. لذا، وحتّى إشعار آخر، ما زال التوافق بعيد المنال، وليس من مرشّح لدى “الثنائي الشيعي” إلا فرنجية، ولا خطة “ب” لديه للرئاسة، بل خطة وحيدة هي “الرئاسة لفرنجية”، وما يسمّى بـ”التوافق” يكون على مرشّحه لا غير.

التساوي بالتحدّي

ليس هذا وحده ما يمكن استخلاصه من موقف برّي. بات الفرقاء المتنازعون على هويّة الرئيس والتركيبة السياسية التي سترافقه، يتساوون في الذهاب بالتحدّي إلى أقصاه، غير آبهين بتداعيات الخلاف بشأن تكوين السلطة، على الأوضاع الاقتصادية المتردّية والحياتية المأساوية التي يغرق فيها اللبنانيون. لا مانع لدى القيادات المتقابلة أن يتصاعد الخراب السياسي والاجتماعي الذي سيعصف بالبلد جرّاء امتداد الفراغ الرئاسي في الزمن، وتسبّبه بمزيد من الشلل في المؤسّسات. ولكلّ منهم “عُدّة الشغل” لاتّهام الآخر بالتسبّب بمزيد من الانهيار. هذا هو الوجه الآخر لقول برّي إنّه لن يدعو البرلمان إلى جلسة لانتخاب الرئيس إلا عندما يتأكّد أنّ تفاهمات ترجّح هذه الإمكانية. وإذا كان يكرّر الدعوة إلى الحوار للتفاهم على ملء الفراغ الرئاسي، فإنّ موقفه قبل يومين يعني أنّ الحوار هدفه قبول الآخرين بالمرشّح الذي يدعمه هو و”حزب الله”. يصدق في هذه الحال ما يُنسب إلى أوساط “الحزب” من أنّه “إمّا فرنجية رئيساً أو ليبقَ الفراغ”.

الفريق المقابل، أي السياديون والتغييريون، يتصرّف بعضه على قاعدة أن لا تنازل لمصلحة مرشّح “الحزب” مثلما حصل عام 2016 حين قُبِل بمرشّح “الممانعة” العماد ميشال عون، حتى لو أدّى ذلك إلى تعميق تردّي الوضع الاقتصادي والمالي، وليكن ما يكون. لاعتقاده أنّه بانتخاب فرنجية سيكون البلد في أسوأ أيامه. فالدول المانحة، وخصوصاً السعودية والكويت، غير مستعدّة لتوظيف المال في البلد إذا انتُخِب مرشّح “الحزب”.

في قناعة معارضي الأخير أنّ الأزمة ستنفجر بوجهه لأنّه الحاكم والمهيمن، وهو الذي يدير البلد منذ سنوات، وليتحمّل مسؤولية تداعيات إصراره على مواصلة التحكّم بالرئاسة الأولى. يتمّ كلّ هذا في وقت يستعدّ حليف “الحزب” المسيحي النائب جبران باسيل للقفز من قارب التحالف فيما الأمواج تتلاطمه.

إلا أنّ خطورة الاستقطاب الحاصل أنّه لا يقف عند حدود إطالة أمد الفراغ، بل يمعن في تسعير الانقسام الطائفي المسيحي الإسلامي، والمسيحي الشيعي، بدليل ما اكتنف السجال بسبب كلام برّي عن مرشّح “التجربة الأنبوبية” من استنفار وحدّة.

ترقّب دوليّ وقلق “مجموعة الدعم”

فور اطّلاع بعض البعثات الدبلوماسية المراقبة لتفاصيل الصراع على الرئاسة، ولموجات الانهيار في سعر الليرة، على فحوى كلام برّي، وعلى الانسداد الرئاسي، قفز إلى أذهان بعضها السؤال التالي: ماذا سيفعل “حزب الله”؟ هل يسعى إلى تغيير في سياسته التي اعتمدها في السنوات الماضية، أم يبقى عليها؟ هل يُجري مراجعة لموقفه ولنهج التعاطي، في وقت تشهد المنطقة حالة من عدم الاستقرار؟

تكمن أهميّة البيان في تأكيده أنّ حلول أزمة لبنان ما زالت موضوع توافق بين موسكو والصين والغرب على الرغم من الخلافات الهائلة في أيّ أزمة أخرى في العالم والإقليم

لا جواب عند الدبلوماسيين. إلا أنّ القلق الدولي من المنحى التصاعدي للتأزّم دفع “مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان” التي تضمّ الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ومن بينها روسيا والصين، إضافة إلى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، إلى إصدار بيان جديد عبّر عن هذا القلق من استمرار الفراغ لحثّ “القيادات السياسية وأعضاء البرلمان على تحمّل مسؤولياتهم والعمل وفقاً للدستور واحترام اتفاق الطائف من خلال انتخاب رئيس جديد من دون مزيد من التأخير”. وكرّرت المجموعة التحذير من شلل المؤسّسات ولوم السلطات لتأخّرها في إقرار القوانين المطلوبة من أجل إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وطالبت بإقرار القوانين التي تستعيد الثقة بالقطاع المصرفي وتوحّد سعر صرف الليرة اللبنانية.

تكمن أهميّة البيان في تأكيده أنّ حلول أزمة لبنان ما زالت موضوع توافق بين موسكو والصين والغرب على الرغم من الخلافات الهائلة في أيّ أزمة أخرى في العالم والإقليم.

ترافق ذلك مع جولة للسفيرة الأميركية في لبنان شملت كلّ القيادات السياسية، كرّرت خلالها ما يقوله أكثر من دبلوماسي من “أنّكم ذاهبون إلى الانهيار الكامل” إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، وأنّ واشنطن لا تريد رؤية البلد بهذه الحالة لانعكاساتها الإقليمية، سواء بسبب أزمة النازحين أو الفوضى التي ستسبّبها وآثارها الأمنيّة. وجدّدت القول إنّ واشنطن ستقف إلى جانب لبنان وتساعده في حال انتخاب رئيس وقيام حكومة تلتزم الإصلاحات، وإنّه لا تفضيل لديها بين المرشّحين، نافية التفسيرات التي صدرت في شأن عدم ممانعتها مجيء سليمان فرنجية.

السفير أشارت إلى أنّ ما يهمّ بلادها هو اتفاق اللبنانيين على الاسم. وهي تركت انطباعاً بأنّ بلادها ستتعامل في نهاية المطاف مع من ينتخب، والمهمّ ألّا يكون منغمساً بالفساد وأن يكون منفتحاً على الجميع ليتمكّن من النهوض بالبلد من أزمته الاقتصادية عبر أهليّته للتعاطي مع المجتمع الدولي والدول المانحة، وأنّ ما يُقلق الجانب الأميركي أن يستمرّ الفراغ في شكل يحول دون ملء الفراغات في مؤسسات أخرى، ومنها حاكمية مصرف لبنان عند انتهاء ولاية رياض سلامة في تموز المقبل.

تصعيد الضغوط على طهران بدل التفاوض

 لكنّ الأوساط السياسية اللبنانية المراقبة لموقف الخارج، بعدما استندت توقّعات بعض الأوساط إلى تقدير بأنّ تسويات إقليمية قد تتيح نفاذ لبنان من الأتون الذي هو فيه، تشير إلى أنّ تطوّر الأحداث يعاكس الرغبات.

وتعدِّد هذه الأوساط العوامل التي تحدّ من المراهنات على إمكان حصول استرخاء إقليمي يُترجَم لبنانياً ويخفّف التوتّر الداخلي، ذاكرةً منها إقفال باب التفاوض من قبل برّي، وإعلان رئيس حزب “القوات اللبنانية” أنّ فريقه سيحرم الخصم من النصاب القانوني لجلسة البرلمان إذا كان سينتخب مرشّحه.

الأوساط السياسية اللبنانية المراقبة لموقف الخارج، بعدما استندت توقّعات بعض الأوساط إلى تقدير بأنّ تسويات إقليمية قد تتيح نفاذ لبنان من الأتون الذي هو فيه، تشير إلى أنّ تطوّر الأحداث يعاكس الرغبات

إذا كانت المراهنات هي على تقارب أميركي إيراني جرّاء وساطة عُمانية في الملف النووي، فإنّ المعطيات تشير إلى أنّ المسؤولين الأميركيين باتوا في وادٍ آخر بعد أنباء ارتفاع نسبة تخصيب اليورانيوم من قبل طهران إلى أكثر من 83 في المئة، وأنّ واشنطن وحلفاءها الأوروبيّين أحلّوا سياسة الضغوط محلّ التفاوض، ويقول بعض المسؤولين في العاصمة الأميركية: “ما نفع التفاوض إذا كان هدفه التوصّل إلى اتفاق يحول دون التخصيب إلى درجة القدرة على صنع قنبلة نووية، فيما طهران اقتربت من ذلك، والبنتاغون يعتبر أنّ باستطاعتها صنعها خلال 12 يوماً”.

ينقل بعض من التقوا مسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن عنهم قولهم إنّه لو قبلت طهران بالعرض الذي قدّمه لها المفاوض الأميركي في أيار الماضي، لكانت حصلت على ما يناهز مئة مليار دولار من أموال محتجزة لها بحكم العقوبات.

يُسقط ذلك المراهنة على أن يشمل التفاوض رئاسة لبنان، في وقت تتوالى العقوبات الأميركية على شخصيات متّهمة بقمع الاحتجاجات الشعبية، وعلى شركات تسهم في تهريب النفط الإيراني.

رهان تقارب السعوديّة مع إيران وسوريا

أمّا المراهنة على تقارب إيراني سعودي يفتح إمكانية أن يشمل ذلك لبنان فيسهّل مجيء فرنجية لأنّ الرياض تكون أخذت ما يطمئنها في اليمن، فإنّه بقي سراباً. حتّى تجديد اللقاءات الثنائية بين الدولتين في بغداد لم يحصل على الرغم من كلّ التسريبات في هذا الصدد.

ذهب بعض المراهنين على هذا التقارب إلى حدّ الترويج بأنّ الوديعة السعودية بمليار دولار للبنك المركزي اليمني “تسليفة سعودية” للحوثيين لأنّ المناطق التي يسيطرون عليها ستستفيد من تجميد سعر العملة الإيرانية. فيما تتّهم الشرعية والرياض “أنصار الله” بمواصلة إفشال تجديد اتفاق الهدنة، والبحرية الأميركية والبريطانية والفرنسية تعلن كلّ أسبوع وضع اليد على باخرة أسلحة إيرانية في عرض البحر موجّهة إليهم.

أمّا الرهان على تقارب عربي سوري، وتحديداً سعودياً – سورياً، في إطار “دبلوماسية الكوارث” والمساعدات الإنسانية بعد زلزال 6 شباط الماضي، وترقُّب بعض مؤيّدي ترشيح فرنجية أن تطرح دمشق على الرياض تزكية رئيس “المردة”، فقد ظلّا في نطاق التمنّيات أيضاً. وحتى التوقّعات بطرح عودة دمشق إلى الجامعة العربية انحسرت بدورها. طغى على هذا الرهان، الذي بقي في حدود المناورات الإعلامية، القرارُ الصادر عن مجلس النواب الأميركي الذي أدان محاولات نظام بشار الأسد الإفادة من المساعدات الدولية للمناطق المتضرّرة من الزلزال وسعيه إلى العودة إلى الساحة الدولية وتطبيع علاقاته، وحذّر من أنّ التعاون معه سيخضع لعقوبات قانون “قيصر”.

إقرأ أيضاً: لرئيس يفهم العالم.. ولا يمثّل إيران

على عكس التسويات، يسيطر على الإقليم مناخ الفرز الدولي الناجم عن حرب أوكرانيا، إذ تنحاز طهران ودمشق إلى موسكو، فيما يصطفّ  حلفاء أميركا إلى جانبها في دعم كييف، التي كانت لافتةً زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود لها وتقديمه المساعدات إليها.

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…