قبل عدّة سنوات روى لي صديق، وهو صحافي من الذين كانوا يتردّدون على السعودية خلال العقود الأخيرة، قصة جرت معه في إحدى زياراته للملك سلمان بن عبد العزيز، حين كان أمير منطقة الرياض.
القصة ليست موضوعنا، لكنّه أثناء سردها أشار بشكل عرضي إلى أنّ نجل الأمير سلمان الأمير محمد، كان “كالمعتاد” حاضراً ويدوّن ملاحظاته. وقبل أن يمضي في سرد قصته استوقفته طالباً تكرار الجملة الأخيرة.
بات معروفاً أنّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان كان يلازم والده. ووفق ما استنتجت من رواية الصديق الصحافي أنّ الأمير كان يحضر اجتماعات ولقاءات والده مع زوّاره من داخل السعودية وخارجها، فأصغى ودوّن، وعرف واكتشف خبايا المملكة وشخوصها وما يجري داخلها، واطّلع على وقائع وحقائق وأسرار حملها الزوّار من سياسيين ودبلوماسيين واقتصاديين وأمنيّين عرب وأجانب. وحين يرعى الملك سلمان هذه التحوّلات التاريخية التي تشهدها السعودية هذه الأيام، فإنّ الدفع بها على نحو بنيويّ من قبل وليّ العهد يأتي من تراكم يوميّ معرفي لحال البلاد استغرق سنوات.
من يزور السعودية يستنتج أنّ إيقاعات “رؤية 2030” جاءت أسرع من بنى البلاد الاجتماعية والمؤسّساتية التحتية
دولة المليون طالب “حول العالم”
ليس عاديّاً أن تتحوّل السعودية إلى “دولة عاديّة”. ولا أحد توقّع يوماً اندثار أعراف اجتماعية ثبّتها وفاقم من حدّتها زمن “الصحوة” وذهب بها إلى ماضويّة خُيّل أن لا رجعة عنها.
يخبرني أحد الأصدقاء السعوديين أنّ ما يجري وفّر على المملكة 50 عاماً من تاريخها، وأنّ ما حصل كان ببساطة يحتاج إلى قرار سياسي قد تأخّر وحين اتُّخذ ثبت، على عكس ما كان يُشاع، أنّ المجتمع كان جاهزاً.
لم تأتِ هذه الجهوزية من فراغ. كانت السعودية قد كثّفت خلال العقود الأخيرة برامج الابتعاث الخارجي التي أرسلت بموجبها ما يقارب مليون طالب وطالبة لتلقّي العلم في كبريات الجامعات والأكاديميات الدولية. خلال هذه الفترة كانت العائلات السعودية حاضرة داخل هذا التطوّر، سواء في الزيارات التي قامت بها لأبنائها وبناتها في دول الابتعاث أو في ما غيّرته تلك التجربة في ثقافة وعقليّات المبتعَثين، إضافة إلى الشهادات والخبرات التي عادوا بها.
يخبرني صديق آخر أنّ بناته الستّ كنّ من بين المبتعَثات في دول مختلفة، وعدنَ جميعاً، وهنّ يعملن الآن في المؤسّسات والشركات الوطنية والأجنبية في السعودية، ويضيف أنّهنّ جميعاً يقُدن سيّاراتهنّ بأنفسهنّ إلى العمل. تفصيل لم يكن من السهل توقّعه قبل عقد من الزمن.
أزاحت السعودية عن نفسها رداءً ثقيلاً له ظروفه وحيثيّاته، لكنّه احتاج إلى إرادات عليا تَفرض بقرار تاريخي الانتقال إلى المستقبل في سباق هائل مع الزمن. وفي الكلام عن الزمن أستذكر ما قاله الأمير محمد في تشرين الثاني 2017: “إنّني أخشى أنّه في يوم وفاتي سأموت من دون أن أحقّق ما يدور في ذهني. إنّ الحياة قصيرة جدّاً، وقد تحدث الكثير من الأمور. كما أنّني حريص جدّاً على مشاهدته بأمّ عيني، ولهذا السبب أنا في عجلة من أمري”.
بات “ستايل” الأمير محمد نموذجاً يطالب به أيّ مواطن في المنطقة يشكو الفساد والتسيّب والفوضى، وهو بدأ يتحوّل إلى مثالٍ لترياق تحقيق النموّ والازدهار
مفارقة “العُلا”.. تختصر الحكاية
من يزور السعودية يستنتج أنّ إيقاعات “رؤية 2030” جاءت أسرع من بنى البلاد الاجتماعية والمؤسّساتية التحتية. تلاحظ بسهولة أنّ المجتمع يعيش لحظة فارقة فيسعى بإيمان إلى الالتحاق بها والدفع لجعلها واقعاً نهائياً يجبُّ ما قبله. كلّ شيء في المملكة انخرط في ديناميّات “الرؤية”. كلّ مناطق ومدن البلاد تعيش تلك اللحظة فتتعرّف السعودية على نفسها. وحين عُرض علينا نحن ضيوف “المنتدى السعودي للإعلام” القيام برحلة إلى مدينة العلا، سُرّ أحد كبار الأكاديميين السعوديين، الذي عرفته في زياراتي السابقة، للأمر مشجّعاً لي على زيارة هذا المكان التاريخي العتيق الذي يعود إلى آلاف السنين والذي بات اليوم مقصد سيّاح الداخل والخارج. خطر لي أن أسأله لماذا لم يتمّ اكتشاف أهميّة هذا المكان وتسليط الأضواء عليه قبل عقود.
المفارقة تختصر الحكاية.
“الدولة العاديّة” التي تريد السعودية أن تكونها هي أن تكون بلداً مُستغِلّاً لموارده، مستثمراً في طاقاته، متنبّهاً لموقعه الجيوستراتيجي، معظّماً لمكانته على الخارطة الدولية، مكتشفاً الثقل الذي يمثّله على المستويين الإقليمي والدولي، مدركاً لمسؤوليته في سوق الطاقة العالمي، واعياً لحقيقة كونه ركناً أساسياً في توازن هذا العالم واستقراره. تُزعج هذه اليقظة منظومة دولية تعوّدت على سعوديّة الماضي وتموضعت وفقها واستفاقت فجأة على سعوديّة جديدة تعمل على أن تكون شريكاً أصيلاً في صناعة هذا العالم.
تنظر عواصم العرب إلى ما يجري في الرياض بإعجاب وتأمّل. شيء ما يتحرّك في كلّ المنطقة وفق ما تحرّك في السعودية. والواضح أنّ “رؤية 2030” بما هي صناعة سعودية لن تبقى كذلك ومحكوم عليها أن تتمدّد صوب المنطقة وتصبح قيمها عابرة للحدود.
أوروبا الجديدة… سعودية
في تشرين الأول 2018 قالها الأمير محمد: “أنا أعتقد أنّ أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط”.
تعيش منطقة الخليج لحظتها التاريخية (استعارة من كتاب الباحث الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله). وتبدو السعودية في تحوّلاتها التنموية الهائلة رافعة لما يجب أن تكون عليه كلّ المنطقة. منطق الأمور يقول إنّ “الرؤية” في السعودية تحتاج إلى ديناميّات في الإقليم تجعل من الحدث الاستثنائي السعودي من عاديّات منطقة برمّتها.
في أيلول 2018 تداولت وسائط الإعلام الاجتماعي فيديو صوّر في مطار بيروت، لشخص يصرخ متبرّماً من حالة الفوضى والعبث والانهيار في الخدمات. قال غاضباً: “والله لازم يحكمكم محمد بن سلمان”.
إقرأ أيضاً: القلق الإيرانيّ من التقارب السعوديّ العراقيّ
إلى هذا الحدّ بات “ستايل” الأمير محمد نموذجاً يطالب به أيّ مواطن في المنطقة يشكو الفساد والتسيّب والفوضى، وهو بدأ يتحوّل إلى مثالٍ لترياق تحقيق النموّ والازدهار.
في السعودية ينشد هذا “الستايل” ببساطة تخليص البلاد من استثنائها الماضويّ لكي تصبح دولة عاديّة تعيش راهنها الحديث. وفي دعوة الأمير محمد إلى طيّ صفحة مرحلة “الصحوة” قال يوماً: “نريد العودة إلى ما كنّا عليه قبل عام 1979”.
ومن عاديّات الأمور أن تدلّ السعودية على تاريخ تأسيسها عام 1727 مع بداية الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، أي منذ حوالي 300 عام. وفي تلك “الدولة العاديّة” ما يرقى بالبلد إلى مصافّ الأمم الكبرى.