في الحراك الدبلوماسي اللافت الذي تشهده عواصم دول المنطقة، احتلّ العراق حيّزاً بارزاً في الاهتمامات العربية والإقليمية، وتحديداً من قبل القيادتين السعودية والإيرانية، وهو ما جعله ساحة لتبادل الرسائل الدبلوماسية والسياسية بين مراكز القرار الإقليمي، وأيضاً مع العواصم الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يعزّز الاعتقاد بأنّ العراق تحوّل في الآونة الأخيرة إلى محلّ اختبار لجدّية نوايا الحلّ لدى الدول المتنافسة والمتصارعة، سواء على مستوى الإقليم، أو في ما يتّصل بأزمة الملف النووي الإيراني وما يتبعها من إعادة تعريف لدور إيران في المنطقة وعلاقتها مع دول الإقليم.
يُعتبر التوقيع على مذكّرة التفاهم الأمني بين وزيرَيْ داخلية السعودية الأمير عبدالعزيز بن سعود ونظيره العراقي عبدالأمير الشمري في الرياض يوم الأحد 19/2/2023، نقلةً نوعيةً في العلاقة بين البلدين تضعها على طريق تثبيت مستوى جديد من التعاون من المفترض أن يؤسّس لمرحلة مختلفة، بعد انقطاع بين الطرفين استمرّ منذ عام 1983، وسيطرت عليه لغة التوتّر والتشكُّك.
في الحراك الدبلوماسي اللافت الذي تشهده عواصم دول المنطقة، احتلّ العراق حيّزاً بارزاً في الاهتمامات العربية والإقليمية، وتحديداً من قبل القيادتين السعودية والإيرانية
عودة العراق
لقد حدث انتقال من سياسة العزوف التي اعتمدتها الدول العربية، وفي مقدّمها القيادة السعودية، في التعامل مع الساحة العراقية بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 والنتائج السياسية التي أسفر عنها هذا الاحتلال الذي حوّل العراق إلى ساحة خلفيّة للنفوذ الإيراني ومدخل للتمدّد نحو الإقليم وتهديد استقرار وأمن ومصالح دول الجوار العراقي الخليجية، إلى سياسة الاحتضان والانخراط في علاقة واضحة وصريحة مع الدولة العراقية انطلاقاً من رؤية تأخذ بعين الاعتبار حاجة العراق إلى استعادة عمقه العربي وإرساء علاقات سليمة وبعيدة عن الهيمنة والاستلاب مع محيطه الإقليمي. هذه العودة العربية الجادّة والقائمة على مبدأ المصالح المشتركة قد تساعد القوى السياسية العراقية ذات الولاءات الإقليمية على اعتماد لغة متوازنة وغير عدائية مع محيطها العربي وتعزيز منطق الدولة في خطابها بدلاً من الخطاب الحزبي أو الأيديولوجي أو المرتبط بأجندات غير عراقية، خاصة أنّ الخطاب الذي اعتمدته هذه القوى في العقدين الماضيين سيطرت عليه لغة متوتّرة اتّخذت في كثير من الأوقات طابعاً طائفياً تحت المظلّة الأميركية وبرعاية إيرانية، وكانت تعبيراً عن حالة التوتّر والخصومة التي هيمنت وتهيمن حتى الآن على العلاقة العربية الإيرانية، وتحديداً السعودية الإيرانية.
جاء هذا الانفتاح أو العودة العربية إلى ممارسة الدور الطبيعي والمطلوب في الحدث العراقي بعد سلسلة من الأحداث والتطوّرات التي شهدها العراق وأسهمت في بلورة حالة وطنية عراقية تسعى إلى الخروج من حالة الاستقطاب التي فُرضت عليها نتيجة سياسات كلّ القوى والأحزاب من مختلف المكوّنات القومية والعرقية والمذهبية، وزادتها تعقيداً الممارسات الخارجية التي سعت إلى تحويل العراق إلى مجرّد رقم في معادلة مصالحها الإقليمية والاستراتيجية.
تعاون أمنيّ – اقتصاديّ
في هذا السياق، يأتي التوقيع على مذكّرة التفاهم الأمني السعودية – العراقية، باعتباره نتيجة موضوعية لسياق من التطوّرات السياسية التي بدأت بين الطرفين وساعدت في بناء الثقة المتبادلة بينهما وسهّلت الانتقال إلى مستوى التعاون الأمني الذي يترجم التفاهمات السياسية والاقتصادية التي أكّدت عليها زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لبغداد قبل نحو عشرين يوماً، والتي تصبّ في إطار رؤية واضحة لنظام المصلحة المشترك، وتكرّس دور العراق الوسيط في الملفّات الإقليمية أو القضايا ذات الاهتمام المشترك أو التي تنعكس إيجاباً على العراق وتعزّز مساعيه إلى إرساء التوازن في العلاقات والابتعاد عن الاستقطاب الإقليمي، وتقوّي موقع الحكومة كعامل للاستقرار والاعتدال في مواجهة مساعي المصادرة التي تمارسها القوى السياسية والحزبية الداخلية.
يشكّل الاتفاق على الترتيبات الأمنيّة والتعاون في مختلف المجالات ذات الطابع الأمني من أجل مكافحة الإرهاب والتهريب ومراقبة الحدود وتفعيل المعابر البرّيّة، مقدّمة ضرورية وأساسية لتفعيل اتفاقية التعاون الاقتصادي التي سبق أن وقّعها الطرفان، والتي تتضمّن تفعيل العمل في مجال النقل البرّي والتعاون التجاري والربط الكهربائي، ومن المفترض أن تدخل حيّز التطبيق العملي والفعلي والفعّال في المرحلة المقبلة.
يشكّل الاتفاق على الترتيبات الأمنيّة والتعاون في مختلف المجالات ذات الطابع الأمني من أجل مكافحة الإرهاب والتهريب ومراقبة الحدود وتفعيل المعابر البرّيّة، مقدّمة ضرورية وأساسية لتفعيل اتفاقية التعاون الاقتصادي
الردّ الإيرانيّ
لكن سرعان ما وجد هذا التطوّر مع ما فيه من تداعيات إيجابية على العلاقة الثنائية بين الرياض وبغداد، ردّة فعل سريعة لدى العاصمة الإيرانية طهران، التي أرسلت وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان في زيارة مفاجئة كان على جدول أعمالها كيفية تفعيل التفاهمات والاتفاقيات الاقتصادية بين الطرفين، خاصة في هذه المرحلة، وبعدما لمست القيادة الإيرانية مماطلة واضحة من جميع الحكومات العراقية السابقة في تنفيذ ما سبق أن تمّ الاتفاق عليه مراراً وتكراراً مع كلّ رؤساء الوزراء السابقين من دون استثناء.
جاءت زيارة عبداللهيان لبغداد بعد يوم واحد على إعلان الرياض الذي تلا اجتماع وزيرَي داخلية العراق والسعودية. وحدّد عبد اللهيان بعد لقائه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أنّ أهداف الزيارة:
– تنمية التجارة وتوسيعها.
– التسريع في عملية ربط سكّة الحديد بين خرمشهر والبصرة وتوسيع الشبكة لتشمل خطوطاً جديدة.
– في قطاع الطاقة: شراء العراق الكهرباء والغاز من إيران.
– إصلاح الجرف القاري لشطّ العرب، ومعالجة موجات الغبار.
– السيطرة الأمنية الفاعلة على الحدود، والتعاون الماليّ بين البنوك المركزية للبلدين.
– توحيد الضرائب وتثبيتها وتعزيز التعاون التجاري والزراعي.
هذا وأكّد عبداللهيان على الدور الذي يلعبه العراق في الوساطة بين طهران والرياض من خلال استضافته خمس جولات من الحوار بينهما، وشدّد على تمسّك بلاده بدور العراق في تقريب وجهات النظر واستمرار الجهود التي يبذلها لاستنئاف هذا الحوار والوصول به إلى نتائج نهائية تؤسّس لإعادة تطبيع العلاقة وعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، مع ما يعنيه ذلك من استعداد طهران لتقديم تنازلات جدّية في الملفّات التي تشكّل هاجساً لدى القيادة السعودية. وذهب إلى أبعد من ذلك حين وسّع دور الوساطة العراقية لتشمل جمهورية مصر العربية وأعلن من بغداد استعداد طهران لتطبيع العلاقة مع القاهرة.
إقرأ أيضاً: التفاؤل العراقيّ قد يكون في مكانه!
قد يكون الهدف الإيراني:
– محاولة تأكيد موقع إيران في العلاقات العراقية الإقليمية.
– انفتاح العراق الجدّيّ على إعادة ترميم علاقات طهران مع عواصم القرار والثقل العربي.
وهذه خطوات تسبق تطوّراً استراتيجياً قد يحصل في الأيام المقبلة ويتعلّق بالمفاوضات النووية والحوار مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد يفتح الباب أمام تحوّلات وتغييرات على صعيد منطقة الشرق الأوسط وملفّاتها المعقّدة والمتداخلة.