فتحت الكارثة الزلزالية في كلّ من تركيا وسوريا بعد أيام على وقوعها باباً يخضع للاختبار في الأسابيع والأشهر المقبلة حول مدى تأثير “دبلوماسية الكوارث” على تغيير الخريطة السياسية لعلاقات كلّ منهما، الإقليمية والدولية، بعدما أطلقت المأساة تضامناً إنسانياً واسعاً مع ضحايا الزلزال في 6 شباط الماضي، حيث هبّت دول على خصومة، بل عداوة، مع كلّ منهما لتقديم المساعدة الإنسانية لضحايا الزلزال، وهم بالملايين من قتلى وجرحى ومشرّدين بلا مأوى، حيث لا تقوى دولة بمفردها على التعامل مع تداعيات غضب الطبيعة.
بات السؤال عمّا إذا كانت هذه الدبلوماسية ستحقّق تغييراً في علاقات الدول العربية مع نظام الرئيس بشار الأسد الذي سارع إلى توظيف اللحظة من أجل تطبيع العلاقة مع المنظومة العربية، أم يبقى الانفتاح في حدود الإغاثة الإنسانية جرّاء الزلزال المدمّر؟
أوضح مصدر مطّلع في عمّان لـ”أساس ميديا” أنّ منطلق المبادرة قناعة بأنّ منهجية “إدارة الأزمة” التي اعتُمدت على مدى سنوات لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم الأزمة السورية
انفتاح “إنسانيّ” يمهّد للعلاقات السياسيّة؟
حتى إشعار آخر تقتصر المعطيات عن إمكان انتقال زيارات المسؤولين العرب لسوريا إلى مستوى الانفتاح السياسي حيال النظام، على ما تسرّب عن “مبادرة أردنية” طُرحت على دمشق خلال زيارة نائب رئيس الوزراء الأردني وزير الخارجية أيمن الصفدي في 15 شباط ولقائه الأسد، فيما بقيت زيارات المسؤولين الآخرين في إطارها “الإنساني”. لكن من الطبيعي أن يرصد المراقبون وسائر الأوساط الدبلوماسية العربية والغربية إذا كانت ستؤسّس لتطويرها نحو مرحلة جديدة في العلاقة مع النظام، كالزيارة المفاجئة التي قام بها الأسد لسلطنة عُمان في 20 شباط ووصفها الإعلام السوري بأنّها “زيارة عمل”، حيث التقى السلطان هيثم بن طارق. وقال الأخير: “سوريا دولة عربية شقيقة ونحن نتطلّع لأن تعود علاقاتها مع كلّ الدول العربية إلى سياقها الطبيعي”، من دون أن تتسرّب معلومات عمّا إذا تناولت خطوات لإحداث تحوُّل في علاقة دمشق مع دول الخليج. إلا أنّ العلاقة السوريّة العُمانيّة ليست جديدة ولم يتمّ تفعيلها بعد الزلزال والمأساة الإنسانية. فمسقط أبقت على سفارتها مفتوحة في سوريا منذ قرار الجامعة العربية تعليق عضويّتها والتعليق الاختياري للعلاقات الدبلوماسية معها عام 2011 بسبب عدم تجاوب الأسد مع خطة الجامعة لحلّ الأزمة السورية. وسبق لمسؤولين عُمانيّين أن زاروا دمشق مرّات عدّة وعلى مستوى وزاري، وأبرزهم الوزير السابق المكلّف الشؤون الخارجية يوسف بن علوي عام 2019، ثمّ خلفه بدر البوسعيدي مطلع 2022، فيما كان وزير الخارجية السوري فيصل المقداد زار مسقط في آذار 2021. وسعت دمشق من وراء انفتاحها على المسؤولين العُمانيين إلى لعب دور في العلاقات الإيرانية الخليجية، ولا سيما في شأن الحرب في اليمن، لعلّها تفتح باباً لتحسين العلاقات معها، خصوصاً أنّ مسقط مركزٌ رئيس للتفاوض بين الحوثيين والجانب السعودي، وبين إيران والولايات المتحدة في شأن الملف النووي الإيراني. وممّا قاله المقداد في حينها عن الزيارة أنّ هدفها “تعزيز التعاون العربي”. لكنّ هذا الباب لم يُحدث تقدّماً في العلاقات مع النظام، واقتصر على تبادل الرسائل بموازاة اللقاءات البعيدة من الأضواء على المستوى الأمني بين الرياض ودمشق، إضافة إلى فتح دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين سفارتيهما في دمشق.
“المبادرة الأردنيّة”: خطوة مقابل خطوة
إلا أنّ زيارة الوزير الأردني الصفدي قبل أيام حملت أفكاراً محدّدة وفق ما قال مصدر مطّلع في عمّان لـ”أساس ميديا”. وبالإضافة إلى تناول الصفدي في تصريحه في دمشق مسألة المساعدات الإنسانية للجانب السوري أوضح أنّ “الزيارة هي محطة للتوصّل إلى حلّ للأزمة السورية”. وذكر المصدر المطّلع في العاصمة الأردنية أنّ الزيارة “جاءت بعد الزلزال لتنسيق المساعدات الأردنية والعمل من أجل تفاهمات لإيصال المساعدات الدولية عبر الحدود وعبر مختلف الخطوط إلى جميع محتاجيها، بما يشمل فتح معابر جديدة بمبادرة من سوريا لضمان دخول المساعدات”.
أمّا على الصعيد السياسي فأشار المصدر إيّاه إلى أنّ “الأردن قدّم منذ مدّة طويلة ورقة أردنية غير رسمية هي بمثابة مبادرة، هدفها التدرّج في حلّ الأزمة في سوريا عبر انخراط عربي – سوري مباشر وفق منهجية خطوة مقابل خطوة”.
اجتماع تشاوريّ قريباً
وأضاف المصدر: “على مدى أكثر من عام بحث الأردن هذه المبادرة مع عدّة عواصم دولية وعربية، وحظيت هذه المبادرة بتقبّل دولي وعربي على أن يقود الجانب العربي عملية وضعها موضع التنفيذ، وسينظّم الأردن قريباً اجتماعاً لعدد من الدول العربية في لقاء تشاوري غير رسمي لإقرار تفاصيل المبادرة وتحديد الآليات للانخراط بتحقيق مندرجاتها والتوافق على مرجعياتها”.
وأوضح المصدر المطّلع في عمّان لـ”أساس ميديا” أنّ منطلق المبادرة قناعة بأنّ منهجية “إدارة الأزمة” التي اعتُمدت على مدى سنوات لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم الأزمة السورية مع ما سبّبه ذلك من نتائج سلبية إنسانياً وسياسياً وأمنياً، ولا يمكن الاستمرار بهذه المنهجية. ولذلك يعمل الأردن على إطلاق مسار سياسي تقوده الدول العربية للتوصّل إلى حلّ متدرّج يعالج كلّ تبعاتها، التي تشمل الجانب الإنساني وقضية اللاجئين ووجود القوى الأجنبية في سوريا، وفي مقدّمها إيران”.
“لقاء صريح” يقابله إهمال دمشق الـ2254
إلى أيّ مدى يمكن أن تلقى هذه المبادرة تجاوباً من قبل دمشق؟ المصدر المطّلع في عمّان اكتفى بالقول إنّ لقاء الوزير الصفدي مع الأسد في 15 شباط “كان مفصّلاً وصريحاً، وناقش كلّ التفاصيل، وكان هناك تقبّل للأفكار. كما كان هناك تجاوب فوريّ حول فتح الحدود لدخول المساعدات. وجرى بحث موضوع تهريب المخدّرات عبر الحدود مع الأردن وما يمثّله من خطر على أمنه القومي، وتأكيد أنّ المملكة ستواصل التصدّي له”.
إلا أنّ مصادر متعدّدة على معرفة عميقة بحقيقة موقف حكّام دمشق ترى أنّ المبادرة الأردنية وكلّ الجهود لحلّ سياسي في سوريا تصطدم بموقف ضمني من الفريق الحاكم يعتبر أنّ التطوّرات في الأزمة السورية أحالت الحلول استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254 إلى التاريخ، وأنّ الحلقة الضيّقة المحيطة بالأسد تعتبر أنّ هذا القرار غير قابل للتنفيذ، نظراً إلى نصّه على قيام مرحلة انتقالية للحكم في سوريا. وتستدلّ هذه المصادر على امتناع النظام عن التزام القرار الدولي بعرقلته المستمرّة منذ زهاء سنتين لأعمال اللجنة الدستورية التي أُنشئت بموجب قرارات قمّة أستانا الثلاثية برعاية مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون.
التنسيق مع موسكو
يُذكر أنّ أفكار المبادرة الأردنية أخذت تتبلور قبل وأثناء مؤتمر لوزراء الخارجية العرب عُقد في بيروت عام 2019، تحضيراً للقمة العربية الاقتصادية التي انعقدت لاحقاً في العاصمة اللبنانية. وأوضحت مصادر دبلوماسية عربية أنّها كانت تشمل التنسيق الوثيق مع موسكو كلاعب رئيس في الميدان السوري وعلى الصعيد السياسي انطلاقاً من منصة أستانا التي تضمّ موسكو مع كلّ من طهران وأنقرة، وأنّه جرى في حينها التشاور مع الجانب الروسي في أفكارها، في سياق العلاقة التي تجمع ملك الأردن عبد الله الثاني مع الرئيس فلاديمير بوتين. وطرح العاهل الأردني أكثر من مرّة مع بوتين مسألة تهريب المخدّرات من سوريا والخشية من تكاثر الوجود الإيراني في محافظة درعا الحدودية مع بلاده.
إقرأ أيضاً: التطبيع مع دمشق: مناخات باريس ومؤشّرات الرياض
وكان الأردن أعاد تفعيل تحرّكه من أجل إحياء أفكار المبادرة عام 2021 قبل انعقاد القمّة العربية بالتزامن مع توجّه لدى عدد من الدول العربية إلى إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، والتقى الوزير الصفدي نظيره السوري فيصل المقداد لهذا الغرض، وجدّد طرح فكرة المبادرة في تصريحات على هامش مشاركته في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، حيث تناول بعض بنودها مع المبعوث الدولي بيدرسون، وقبيل انعقاد القمة العربية في الجزائر في تشرين الثاني 2022 الماضي. إلا أنّ الجهود في شأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، والتي شاركت فيها الجزائر، لاقت اعتراضاً من قبل مصر والسعودية وقطر، فضلاً عن مراعاة دول عربية تهيّأت للتطبيع مع دمشق للموقف الأميركي المتشدّد حيال النظام السوري، نظراً إلى امتناعه عن تحقيق أيّ تقدّم في الحلّ السياسي وفقاً للقرار الدولي 2254 الذي جوهره قيام حكم انتقالي. هذا فضلاً عن أنّ الأردن نفسه عاد فتردّد إزاء التطبيع مع النظام بسبب عدم اتخاذه التدابير المطلوبة لمنع تدفّق المخدّرات المهرّبة من سوريا عبر الحدود السورية الجنوبية حيث ازداد الوجود الإيراني. وقد واجهت الأجهزة الأمنية الأردنية عمليات التهريب بشدّة واشتبكت مراراً مع المهرّبين (داخل الأراضي الأردنية والسورية) الذين شملت عملياتهم تهريب الأسلحة أيضاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@