كرّر قائد الوحدة الصاروخية في الحرس الثوري الإيراني العميد أمير علي حاجي زاده، أنّ خطط اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووزير خارجيّته مايك بومبيو، ثأراً لمقتل القيادي قاسم سليماني، “لا تزال هدفاً أساسياً” لقوّاته، بعد ثلاث سنوات من قتل سليماني بهجوم صاروخي نفّذته مسيّرة أميركية في بغداد. ووعد حاجي زاده في حديث تلفزيوني بإمكان قتل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو، وقائد القوات الأميركية المركزية الجنرال كينيث ماكنزي.
الثأر سرديّة خمينيّة
تلقي مثل هذه التصريحات الضوء، على فكرة الثأر كمكوّن رئيسي في الثقافة السياسية لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يختصره شعار “الموت لأمريكا”، وارتباطه بقيم أخرى موازية كالشرف والكرامة للأفراد أو المجتمع أو المؤسّسة السياسية، في حين يُعدّ الفشل في أخذ الثأر علامتَيْ ضعف وجبن أكيدتين. كما أنّ الثأر، وهذا الأهمّ في حالة إيران، أداة تعبئة وتحريض وترويع، تغطّي تطبيقاتها كافّة مساحات السياسة والعقيدة وتحتلّ متن القيم السياسية للتشييع الخميني. وإن دلّ شعار “الموت لأمريكا” على شيء فهو يدلّ على التوظيف السياسي المثابر لإحساس جمعيّ عميق بالظلم ورغبة في الانتقام، ما يجعل الثأر بمنزلة العقد الاجتماعي الذي أرادته الخمينيّة لهويّتها كدولة.
تستخدم أجهزة الدعاية والاستخبارات الإيرانية مفهوم الثأر كأداة ضبط وترويع في الداخل، حيث تشجّع الحكومة الإيرانية على الانتقام من الأعداء الداخليين أو حتى الخارجيين
وغالباً ما صاغت الحكومة الإيرانية سياساتها وأفعالها من منظور الصراع بين الخير والشرّ، مع تصوير الجمهورية الإسلامية على أنّها المدافع عن “المستضعَفين”، في مواجهة “الطاغوت” أو “الاستكبار” اللذين تمثّلهما الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى.
والثأر أيضاً، قيمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسردية الخمينية لتراجيديا عاشوراء، ومقتل الإمام الحسين في القرن السابع الميلادي، على ما يختصرها شعار “يا لثارات الحسين”. وقد وُظّفت القيم الناتجة عن هذه السردية الخمينية كأداة تعبئة سياسية في سياق الصراعات الإقليمية المعاصرة، وكان أبرزها إبّان الحرب بين إيران والعراق في ثمانينيات القرن الماضي، إذ جعلت الدعاية الإيرانية من صدّام حسين يزيداً معاصراً ومن الخميني حسيناً يقابله. كما استخدم النظام الإيراني موقع كربلاء كمفردة سياسية عقائدية محمّلة بشتّى أنواع الرسائل الثأرية، ولا سيّما عبر شعار “طريق القدس تمرّ في كربلاء”، أي أنّ تحرير فلسطين يبدأ أوّلاً بالثأر للإمام الحسين من ورثة يزيد في العراق ممثّلين بنظام صدّام حسين وحزب البعث. وما لبث أن عاد حلفاء إيران في العراق، ولا سيّما رئيس الوزراء نوري المالكي وقادة الميليشيات، إلى توظيف السردية العاشورائية لتأطير الصراعات السياسية الراهنة في العراق وجعلها امتداداً موضوعياً للصراع التاريخي بين يزيد والحسين وتجيير الأفعال السياسية المعاصرة إلى منظومة الثأر للإمام الحسين. وهذا ما فعل مثله حزب الله في إطار اشتراكه في الحرب السورية تحت عنوان “زينب لن تُسبى مرّتين”، بغية إعادة وصل الحرب بمتن عاشورائي ثأري يبرّر القتل والقتل المضادّ باعتباره قرابين زينبيّة وحسينيّة لا صراع مصالح سياسية وحروب سلطة ونفوذ.
وتستخدم أجهزة الدعاية والاستخبارات الإيرانية مفهوم الثأر كأداة ضبط وترويع في الداخل، حيث تشجّع الحكومة الإيرانية على الانتقام من الأعداء الداخليين أو حتى الخارجيين، باستخدام مفهوم الثأر المتجذّر في الثقافة السياسية لإيران الخمينيّة.
منحةٌ لقاتل رشدي
فليس صدفة أن تتزامن تصريحات حاجي زاده مع انتشار تصريحات لمحمد إسماعيل زارعي أمين “اللجنة الشعبية لتنفيذ فتوى الخميني ضدّ سلمان رشدي”، عن منح إيران قطعة أرض مساحتها ألف متر للشابّ الذي حاول قتل رشدي، في نيويورك طعناً، وأفقده إحدى عينيه. وما الفتوى هذه ومئات الفتاوى المماثلة سوى آليّة تنفيذية لعقيدة الثأر الخمينية التي تقع، كما تقع إيران برمّتها، خارج دائرة القانون وما يحكم علاقات بني البشر في الزمن المعاصر. فمع ازدياد تعقيد المجتمعات وتطوُّر النظم القانونية، بات يُنظر إلى الثأر على أنّه تهديد لاستقرار النظام الاجتماعي، حتى في المجتمعات التي يُعتبر فيها الثأر قيمة اجتماعية مقبولة.
لا تُحصى تبعات ثقافة الثأر على إيران مجتمعاً ودولة، والتي سيطرت على حضور إيران في كلّ الميادين، ولا سيّما في السياسة والعلاقات الدولية. وما واقع إيران اليوم الاقتصادي والسياسي والمجتمعي المهترئ إلا بعض وجوه هذه التبعات على دولة تمتلك كلّ مقوّمات أن تكون ذات مكانة مرموقة في المنطقة والعالم. على الضدّ من ذلك تبدو إيران اليوم دولة يأكلها الغضب وتستنزفها رغبات الثأر من خصوم واقعيين وهميين، غارقة في مستنقع من العنف والمخاطرة والاحتكاك اليومي المذلّ بالفارق المهول بين الخطاب العالي السقف والقدرات الأدنى منه بكثير. وهذا ما يفسّر الكثير من الخطابات الإيرانية التي لا تأتي إلا على ألسنة من صادر اليأس أرواحهم ووضعهم على حواف الجنون الفردي والمجتمعي. فالاعتماد على الفوائض الرمزية والتحشيد العاطفي، لا يرقى إلى مستوى التحدّيات المعقّدة التي تواجه إيران اليوم، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والعلاقات الإقليمية والدولية، بل بات يفضح هزال الثقافة السياسية الإيرانية التي تحاول عبر سرديّات المقاومة والاستشهاد والثأر التعويض عن الفشل في صنع سياسات عمليّة وفعّالة.
لو يقرأون شكسبير
كلّما سمعت تهديدات إيرانية، أو تهديدات يكرّرها المسؤولون عن أدوات إيران في الإقليم، قفزت إلى ذهني شخصية مارك أنتوني، الصديق والحليف المقرّب ليوليوس قيصر في مسرحية شكسبير المذهلة.
عاش مارك أنتوني بعد مقتل القيصر مأخوذاً بفكرة الثأر لمقتل صديقه مستخدماً كلّ مهاراته الخطابية لتأليب شعب روما ضدّ المتآمرين وساعياً إلى استعادة المجد السياسي للقيصر المقتول. بيد أنّ رحلة الثأر انتهت بسقوط جمهورية روما وصعود الإمبراطورية الرومانية على حطام الأولى.
إقرأ أيضاً: إرهاب إيران و”القاعدة” مجدّداً
فحيح الثأر الذي كان يضجّ بصدر مارك أنتوني كان الطريق التي أودت إلى تدمير روما. أمّا بروتوس الذي اشترك في التآمر على قتل صديقه القيصر لأنّه كان يخاف من خطر طموحاته على مستقبل روما، فقد أسقطته الخيانة في دوّامة الذنب والقلق وهيمنت عليه الكوابيس لينتهي رجلاً محطّماً قبل موته التراجيدي.
حبّذا لو يقرأ المسؤولون الإيرانيون شكسبير، وأن تتّعظ جمهورية الخميني من جمهورية روما.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@