فاجأ الرئيس الأميركي جو بايدن العالم بزيارة العاصمة الأوكرانية. قبل أربعة أيام من انقضاء العامّ الأول على الحرب الروسية الأوكرانية، وقبيل إلقاء بوتين خطاب الأمّة أمام الجمعية الفدرالية، والتفافاً على الصين التي طرحت مبادرة للسلام في أوكرانيا، وأتبعتها بمبادرة أوسع للأمن العالمي، لقيت صدى في أوروبا، فيما يراهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تراجع الدعم الغربي لأوكرانيا، بمقابل العزم الروسي على التضحية بالغالي والنفيس للسيطرة على المناطق المضمومة رسمياً إلى اتّحاد روسيا.
الرحلة السوريالية (العجائبية)، على حدّ تعبير صحيفة نيويورك تايمز، بطُرُقها الملتوية، واستعمال أساليب التمويه، للوصول إلى بولندا، ومن هناك بالقطار إلى العاصمة الأوكرانية، بدت وكأنّها أكثر من كونها حملة علاقات عامة، ربّما لبدء العمل على ولاية ثانية العام المقبل، بل لتأكيد الاتجاه المتشدّد بإزاء موسكو، بمعنى الإصرار على إلحاق الهزيمة بروسيا في أوكرانيا. لقد اتّسمت الزيارة الأولى من نوعها لرئيس أميركي إلى ساحة حرب لا يوجد فيها قوات أميركية، برمزيّتها العالية، بكونها تحدّياً مباشراً لجهود بوتين من أجل تخطّي المأزق الميداني، بالإرهاب النووي والتصويب النفسي على مركز الثقل في الدفاع الأوكراني الصلب، وهو المتمثّل بما يتوالى على كييف من موجات الدعم الغربي العسكري والأمني والمالي والسياسي والإعلامي. فلا يمكن لأوكرانيا الصمود عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من دون هذا الدعم. واستنزاف الوقت هو ما يُتقنه الروس تاريخياً. فعلوا ذلك من قبل مع نابليون عام 1812، ومع هتلر عام 1941، وانتصروا في الحالتين. لكنّ الأمر مختلف نوعيّاً في أوكرانيا. فالروس تورّطوا في قتال لم يكونوا يخطّطون له مع إخوة العِرق والدين. أهداف الحرب غير واضحة. وروسيا لم تكن مهدّدة وجودياً كما أصبحت الآن بعد وقوعها في فخّ التاريخ والجغرافيا.
فاجأ الرئيس الأميركي جو بايدن العالم بزيارة العاصمة الأوكرانية. قبل أربعة أيام من انقضاء العامّ الأول على الحرب الروسية الأوكرانية، وقبيل إلقاء بوتين خطاب الأمّة أمام الجمعية الفدرالية
بوتين يردّ التحدّي بمثله
تقع أوكرانيا تاريخياً وجيوبوليتيكياً في الفناء الخلفي لروسيا. أمّا بولندا، فشهدت عاصمتها وارسو عقد معاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة بين الاتحاد السوفياتي وسبع دول أوروبية اشتراكية عام 1955، ردّاً على انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي في العام نفسه، فحمل الحلف الجديد اسمها (حلف وارسو). وهي الآن الدولة الأوروبية الشرقية الأكثر حماسةً لدعم أوكرانيا في دفاعها المصيري ضدّ اتحاد روسيا وريث الاتحاد السوفياتي البائد. وبهذا، يكون بايدن قد زار الجبهة الأمامية في الصراع العالمي بين الولايات المتحدة وروسيا، بما يحمل ذلك من استفزاز للشعور القومي الروسي. وربّما من أجل تلك المعاني، كان الخطاب التقليدي لبوتين أمام الجمعية الفدرالية الروسية، بعد يوم واحد فقط، من رحلة بايدن إلى أوكرانيا وبولندا، أشدّ في التعبير والمضمون، تصعيداً للموقف وتهديداً نووياً غير مسبوق. فهو أعلن وقف مشاركته في معاهدة ستارت الجديدة، والتي تُعنى بخفض الأسلحة الاستراتيجية Strategic Arms Reduction Treaty، مع ما يرسل ذلك من إشارات وتلميحات بالتوتّر النووي. وكانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، قد اتفقا في آخر أيام الرئيس ميخائيل غورباتشوف على معاهدة ستارت 1 عام 1991، وأصبحت قيد التنفيذ عام 1994. ثمّ انعقدت معاهدة ستارت 2 للغرض نفسه بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وانتهى مفعولها عام 2009. وفي العام التالي، وقّع الرئيس الأميركي باراك أوباما مع نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف على معاهدة ستارت الجديدة التي تنصّ على خفض معتبر للأسلحة الاستراتيجية النووية لدى البلدين، حتى عام 2026. وفوق ذلك، هدّد بوتين بالعودة إلى التجارب النووية في حال عودة واشنطن إلى اختبار الأسلحة النووية. لكنّ المفارقة الميدانية، أنّ كلّ مظاهر الحرب العالمية وهواجسها، تنحصر فعّاليّاتها الآن في جبهة ضيّقة شرق أوكرانيا، حول مدينة صغيرة هي باخموت، وأهمّيّتها العسكرية أنّها مفترق طرق. أمّا الجهد الروسي الرئيسي، فتقوم به مجموعة فاغنر يقودها طبّاخ بوتين، يفغيني بريغوزين، وتتكبّد خسائر هائلة، لاعتمادها على تكتيكات سوفياتية قديمة، وبإطلاق موجات بشرية متعاقبة لتحقيق اختراقات في دفاعات العدوّ، مع معاقبة المنهزمين الروس بقسوة بالغة. وعلى الرغم من أنّ ميليشيا شبه رسمية، تنوب مكان الجيش الروسي النظامي، في محاولة تعديل موازين القوى في أوكرانيا، إلا أنّها تتنافس معه بدلاً من التعاون، واتّهم بريغوزين قيادة الجيش بالخيانة لأنّها تحرم مقاتلي فاغنر من الدعم المدفعي اللازم، ومن إمدادات الذخيرة. بل إنّ وحدات النخبة في الجيش الروسي، والتي تضمّ لواء مشاة البحرية 155، وكتيبة ألغا المكوّنة بمعظمها من المتطوّعين التتار المسلمين، تكبّدت خسائر فادحة في الرجال والمعدّات، لا سيما بين 27 كانون الثاني و6 شباط عندما حاولت التقدّم قرب باخموت عند بلدة صغيرة هي فوهلدار. وكشفت صور الميدان ومصادر إعلامية روسية وأوكرانية متطابقة، سقوط مئات القتلى وخسارة أكثر من 130 آلية، منها أكثر من 30 دبّابة. وهذا مؤشّر سلبي للغاية إلى مآل الهجوم الروسي الكبير المتوقّع في الربيع الآتي. حتى إنّ بريغوزين قائد مجموعة فاغنر، صرّح عقب تلك المعركة في حوار نادر مع وسيلة إعلامية روسية بأنّ موسكو يمكن أن تمضي سنتين في القتال قبل أن تسيطر على كامل أراضي الجمهوريتين الملحقتين بروسيا، دونيتسك ولوهانسك. أمّا إذا كان الهدف الوصول إلى نهر دينيبر، فستحتاج موسكو إلى ثلاث سنوات.
إنّ استراتيجية بوتين بعد عام من الاجتياح الفاشل لكييف تختلف عن الاستراتيجية الحالية لتحقيق الهدف المعلن أخيراً، وهو السيطرة على الأراضي التي أعلن بوتين ضمّها رسمياً إلى الاتحاد الروسي في 5 تشرين الأول من العام الماضي. حتى لو بقي اسمها “العملية العسكرية الخاصة”، لكنّها عملياً، أضحت حرباً شاملة كلاسيكية، وعلى الطراز السوفياتي من حيث المبدأ. كانت عملية خاصة، لأنّ الهدف المباشر كان القضاء على القيادة الأوكرانية في كييف، ثمّ تجتاح القوات الروسية أوكرانيا من كلّ الاتجاهات، مع توقّع الانهيار الكامل للدولة الأوكرانية، من دون قيادة. المفارقة، أنّ “عملية قطع الرأس” فشلت في الساعات الأولى، عندما اصطدمت القوات الخاصة الروسية في مطار هوستوميل بمقاومة أوكرانية شديدة، ولم يكن لدى الروس خطة بديلة، فبدأت الوحدات المحتشدة على الحدود باجتياح الأراضي الأوكرانية، في ظروف مختلفة وغير مخطّط لها. فالجيش الأوكراني، تجنّب الكارثة العسكرية، بنشر قواته وأسلحته، وتمكّن بسرعة من جمعها مجدّداً، لضرب الروس في المؤخّرة. وأظهرت القيادة الروسية السياسية والعسكرية، عجزاً مرعباً عن التكيّف، وهو ما تسبّب بكارثة تاريخية للجيش الروسي، إذ بحسب التقديرات البريطانية والأميركية، خسر الروس منذ بدء الحرب العام الماضي، نصف دبّاباتهم العاملة، وأكثر من 200 ألف بين قتيل وجريح. وهذه الخسائر وحدها تكفي للإشارة إلى الطرف الخاسر حتى الآن. لكنّ السباق الحقيقي الآن، هو مدى قدرة المعسكرين المتحاربين على صناعة الأسلحة والذخيرة وتوفيرها من مخازن الحلفاء. فمعظم خسائر الروس بسبب المدفعية الأوكرانية. لكن بحسب الناتو، فإنّ سرعة استهلاك الجيش الأوكراني لقذائف المدفعية تتفوّق على سرعة التصنيع في دول الحلف. وبالمثل، يسعى الروس إلى شراء السلاح الجاهز لدى الحلفاء، بسبب العجز الواضح عن التعويض المناسب زمنياً لمستوى استهلاك القذائف والصواريخ. لذلك، فإنّ إشاعة قرب بيع الصين الأسلحة والذخائر أثارت القلق الجادّ لدى الولايات المتحدة والغرب عموماً، علماً أنّ الأميركيين هم مصدر الإشاعة التي نفتها الصين. وقد يكون الهدف هو التشويش على مبادرة سلام صينية تلقى ترحيباً أوروبياً حذراً.
هل المخرج بيد الصين؟
جاء الحراك الصيني في توقيت مدروس، من أجل إحداث الخرق في الجدار، وزعزعة وحدة الصف في الحلف الأطلسي. لذلك، وقبل أن تنكشف بنود المبادرة الصينية، سارع وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا إلى رفض أيّ مشروع سلام يتضمّن المقايضة بين الأرض والسلام، بمعنى التشبّث باسترجاع كلّ الأراضي الأوكرانية المعترف بها دولياً، أي بعبارة أخرى، اعتماد الخيار العسكري، بما أنّ الروس لن يتخلّوا عن المناطق التي أعلنوا ضمّها في الشرق والجنوب. لكنّ أهمية المبادرة الصينية تتجاوز أوكرانيا بما هي ساحة النزال بين القوى النووية الحالية ما عدا الصين. وينبغي التطلّع إلى المبادرة الأوسع التي أعلنها الرئيس الصيني شي جينبينغ في نيسان الماضي، أي عقب فشل الهجوم الروسي على كييف، ثمّ نشرتها بكين كورقة رسمية في 21 الشهر الجاري، تحت عنوان: مبادرة الأمن العالمي The Global Security Initiative، وذلك لفهم الأبعاد المحتملة لمبادرة السلام في أوكرانيا. تتضمّن مبادرة الأمن العالمي بحسب نصّها الرسمي مبادئ أساسية، أبرزها احترام السيادة الوطنية لكلّ الدول على أراضيها، سواء أكبيرة كانت أم صغيرة، قويّة أم ضعيفة، غنيّة أم فقيرة، وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، واحترام خياراتها في نُظمها الاجتماعية وطُرق نموّها، بحسب ما ينصّ عليه القانون الدولي من جهة، والاهتمام بالهواجس الأمنيّة المشروعة للدول من جهة أخرى، باعتبار أنّ الأمن العالمي لا يتجزّأ، ولا ينبغي أن يكون أمن دولة ما على حساب الأمن لدولة أخرى، وأن يكون اللجوء إلى الحوار هو الأساس لحلّ النزاعات بين الدول، وليس عبر فرض العقوبات، والحفاظ على الأمن العالمي من الأخطار التقليدية وغير التقليدية.
إقرأ أيضاً: الأفق المسدود في الحرب الأوكرانيّة
هذه المبادرة هي تأسيس لنظام عالمي جديد، من دون أُحاديّة قطبيّة، تحتكرها الولايات المتحدة حتى الآن. وهي تبني على المأزق في أوكرانيا، وأخطاره على السلام العالمي، من أجل صياغة توازن جديد، يقوم على المساواة القانونية بين الدول. لكن تبقى المشكلة في كيفية التوفيق بين سيادة الدول وهواجسها الأمنيّة، لا سيما في حالة روسيا التي لا تعترف بسيادة أوكرانيا. هل يتضمّن الحلّ الصيني، إخضاع المناطق الأوكرانية المضمومة إلى روسيا لاستفتاء شعبي بإشراف الأمم المتحدة مثلاً، وفق مبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها؟ وماذا عن حقّ الإيغور الأتراك أيضاً في تقرير المصير؟