انفجرت ميزانية مصرف لبنان في شباط، كما كان متوقّعاً، ففجّر الحاكم رياض سلامة قضيّة أخرى تتعلّق بالدين العام، مضيفاً إليه 16.5 مليار دولار بجرّة قلم، من دون أن تنبس وزارة المالية ببنت شفة، لا بالموافقة ولا بالاعتراض.
القصّة الكاملة
بدأت القصّة باعتماد سعر الصرف الجديد (15 ألف ليرة بدلاً من 1507.5) في تشرين الأول الماضي، وكان واضحاً أنّ ذلك سيتسبّب بانفجار حسابات مصرف لبنان والبنوك، فأعطى الحاكم نفسه مهلة حتى مطلع شباط لتطبيق سعر الصرف الجديد.
لتبسيط الأمر، كان لدى مصرف لبنان فجوة كبيرة مخفيّة بين ما يملكه من أصول مقوّمة بالعملة الأجنبية، بما فيها الذهب، وما عليه من مطلوبات بالعملة الأجنبية. وكان مصرف لبنان يُخفي حجم هذه الفجوة، لأنّه لا يعلن حجم ما تودعه البنوك لديه بالدولار، بل كان يخلط رقم الودائع الدولارية بالودائع بالليرة، ويُصدر رقماً إجمالياً بلغ في آخر ميزانية قبل تغيير سعر الصرف 161 ألف مليار ليرة تقريباً.
خسائر مصرف لبنان لا تعود إلى تهوّر الهندسات المالية والانفلات في بناء مراكمة المطلوبات بالعملة الأجنبية، بل إنّ الدولة هي من أنفقت تلك الأموال وتسبّبت بالارتطام الماليّ
مع ارتفاع سعر الصرف الرسمي من 1,500 إلى 15,000 ليرة، تضاعفت قيمة الشقّ الدولاري من ودائع البنوك لدى مصرف لبنان عشر مرّات، فقفزت القيمة الإجمالية لبند “ودائع المؤسسات المالية” بنسبة 740% لتصل إلى 1.35 تريليون ليرة. هذه القفزة قابلها في الناحية الأخرى من الميزانية ارتفاع للموجودات الأجنبية، لكنّه ليس بالقدر الكافي لموازاة هذا الرقم الهائل. فالذهب كانت قيمته بسعر الصرف السابق 26 ألف مليار ليرة، وباتت على سعر الصرف الجديد 254 ألف مليار ليرة، والاحتياطيات بالعملة الأجنبية ارتفعت من 22.6 ألف مليار ليرة إلى 222 ألف مليار ليرة. وهو ما يعني أنّ الفرق في تقويم الذهب والموجودات الدولارية لم يُضِف إلى موجودات مصرف لبنان سوى 427 ألف مليار ليرة، أي ما يقارب ثلث الزيادة التي طرأت على قيمة ودائع البنوك لدى مصرف لبنان. وكلّ هذا يحصل نتيجة لرفع سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة فقط، فماذا لو تمّ تحرير السعر كما يطلب صندوق النقد الدولي؟ أيّ فجوة فلكية ستقع فيها ميزانية مصرف لبنان؟
الدولة سبب الارتطام المالي
لتضييق الفجوة، أخرج رياض سلامة بعض الأرانب المحاسبية، فأدرج في قائمة الموجودات “فروق تقويم” بقيمة 548 ألف مليار ليرة، من دون أن يكلّف نفسه عناء شرح المنهجية التي استند إليها للوصول إلى هذا الرقم الذي يعادل ضعف ما كانت عليه الميزانية بكاملها قبل 14 يوماً فقط! ثمّ كانت الضربة الكبرى بإدراج دين جديد على الدولة لصالح مصرف لبنان بقيمة 247 ألف مليار ليرة، أي ما يعادل 16.5 مليار دولار. وهنا قدّم تفسيراً للطريقة التي ظهر فيها الرقم فجأة.
يشرح مصرف لبنان أنّه بدأ اعتباراً من نهاية عام 2007 بسداد المدفوعات نيابة عن الحكومة اللبنانية من احتياطياته الأجنبية:
1 – إمّا ضمانات نقدية بالليرة اللبنانية وفق سعر الصرف الرسمي 1,507.5 ليرة للدولار، تتمّ تغذيتها من ودائع القطاع العامّ.
2- وإمّا مقابل إعادة دفع المبلغ نفسه في مرحلة لاحقة بالعملة نفسها (الأجنبية).
يوضح مصرف لبنان أنّ قيمة الودائع الحكومية، وفق سعر الصرف السابق، كانت تتجاوز الرصيد التراكمي الصافي للمدفوعات التي سدّدها نيابة عن الحكومة، لكن مع رفع سعر الصرف في بداية شباط تجاوزت قيمة المدفوعات بالدولار قيمة الضمانات النقدية بالليرة، وهو ما نتج عنه تسجيل رصيد قروض للدولة بقيمة 16.5 مليار دولار، وتسجيلها في موجودات مصرف لبنان.
هذا الزعم كبير جدّاً، فالرقم يعادل نصف ديون لبنان بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز) التي امتنع لبنان عن سداد ما يستحقّ من مدفوعاتها اعتباراً من آذار 2022. والعجيب أنّ وزارة المالية لم تُصدر أيّ تعليق على تطوّر بهذه الخطورة.
بالطبع هناك ما يتجاوز الجانب التقني في الفذلكة المحاسبية التي هي محلّ جدل بلا أدنى شكّ. فرياض سلامة يسجّل بهذا الزعم نقطة في الأساس مفادها أنّ خسائر مصرف لبنان لا تعود إلى تهوّر الهندسات المالية والانفلات في بناء مراكمة المطلوبات بالعملة الأجنبية، بل إنّ الدولة هي من أنفقت تلك الأموال وتسبّبت بالارتطام الماليّ.
إعادة هيكلة مصرف لبنان
أيّاً يكن، فإنّ ضربة سلامة فتحت نقاشاً في موضوع يمثّل صلب الأزمة، وهو إعادة هيكلة مصرف لبنان. تلك المؤسّسة الرسمية هي أكبر متعثّر في البلاد، ومكمن الكارثة المالية والنقدية، بخسائره الهائلة التي لم يظهر منها سوى رأس جبل الجليد. والطامّة أنّ حكومتَي ما بعد 17 تشرين الأول 2019 تتعاملان مع إفلاس مصرف لبنان كقضية ثانوية، وتنفض يد الدولة من المسؤولية عن الكارثة التي وقعت على المودعين بسبب تعثّره وتخلّفه عن سداد المستحقّات للقطاع المالي. فخطّتا التعافي المقدّمتان من حكومتَي حسان دياب وميقاتي تُجمعان على عدم إسهام الدولة في إعادة هيكلة مصرف لبنان بأكثر من 2.5 مليار دولار على شكل سندات خزينة. وتضيف حكومة ميقاتي أنّها تريد “شطب معظم التزامات مصرف لبنان تجاه البنوك بالعملة الأجنبية”، مع علمها أنّ قراراً بهذه الخطورة يعني شطب ودائع الناس في البنوك.
إقرأ أيضاً: انتفاضة البنوك على المودعين: الشيكات أو لا شيء
في واقع الحال، كشفت ميزانية أرقام مصرف لبنان رقماً كان رياض سلامة يحتفظ به سرّاً منذ سنوات، وهو حجم ودائع البنوك بالعملة الصعبة لديه، إذ تبيّن أنّها قريبة من 80 مليار دولار. ولو أنّ مصرف لبنان لم يكن مفلساً أو متعثّراً في سدادها لما كانت هناك أزمة مصرفية أصلاً، ولما طارت ودائع الناس.
ما فعله رياض سلامة بأرنبه المحاسبيّ أنّه فتح النقاش حول تحمّل الدولة لمسؤوليّتها في معالجة خسائر مصرف لبنان، وهو نقاش جدير بأن يُفتح.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@