“التكفير” في الغبيري.. قبل 100 عام من لقمان

مدة القراءة 11 د

يروي كتاب “ليلى… أو معنى أن تكون في غير بيتك”، روته ليلى الحاج المبيض، وكتبته ابنتها لمياء المبيض*، أنّ قرى ساحل المتن الجنوبي كانت في الحرب العالمية الأولى “أقلُّ تأثّراً بالمجاعة التي ضربت لبنان. ربّما لأنّ أهلها كانوا مكتفين من الزراعة في أرضهم. وربّما لأنّ ذاك الساحل كان ممرّاً لتهريب القمح والأرزّ والسكّر والكاز” من سوريا وفلسطين إلى قرى جبل لبنان وبلداته. وكذلك لتهريب ضبّاطٍ وعسكريين عرب فرّوا منشقّين من الجيش العثماني، للالتحاق بالجيش العربي الذي قاده الأمير فيصل في سوريا، ابن الشريف حسين في مكة، المتعاون مع البريطانيين. وفي أيام تلك الحرب ومجاعتها كانت ماريا والدة عبدالله الحاج ترسلُ لابنها الطالب في استعدادية “الإفرنج” الإنجيلية (التابعة للجامعة الأميركية) “حاجاته من بيتها”: ثياباً “منشّاة” ومآكل في “سلّة أو مطبقيّة”. وغالباً ما كانت شقيقته بلقيس ترافق المرسال في رحلته من الشيّاح إلى محلّة البربير مشياً، ثمّ في الترامواي حتى محطة غراهام قبالة الجامعة الأميركية في رأس بيروت، فتشاهد في رحلتها “طوابير الجائعين والمتسوّلين” هائمين في الطرق.

تزامناً مع نشأة “زهرة الآداب” و”العروة الوثقى” المختلفتَي الأهداف والتطلّعات في بيئة الكلية السورية الإنجيلية النخبوية المختلطة طائفياً، كانت هناك بيئة نخبوية أخرى في جامعة القدّيس يوسف اليسوعية في بيروت

وروى وهيب معلوف في كتابه: “نائب الشعب الكادح: سيرة عبدالله الحاج” (دار النهار، بيروت، 2007) أنّ عبدالله الحاج، بعدما صار طالباً في الجامعة الأميركية (1918- 1922) راح “يستيقظ مبكراً في صباحاته البيتية، فيتناول فطوره بين أهله، وينطلق سيراً على قدميه، فيخترق حرج صنوبر بيروت، ويصل إلى محلّة عائشة بكار، فرأس بيروت. وفي الجامعة تستغرقه نهارات المحاضرات والدرس والرياضة على أنواعها، حتى المصارعة الحرّة. ولمع عدّاءً للمسافات الطويلة، وظلّ محتفظاً بالرقم القياسي في سباق الضاحية حتى سنة 1926″. و”لترقية ميوله الأدبية” انتسب إلى جمعية “زهرة الآداب” التي سبق أن أسّسها نفر من طلاب الجامعة، بينهم أستاذه ومثاله محمد الزين، وكان هدفهم منها “ترقية” تلك “الميول” لدى أعضائها وفي البيئة الطلابية الجامعية. ولأنّ محمد الزين (“أمين صندوق” الجمعية) كان يقيم في كيفون صيفاً، راح يقصده عبدالله الحاج في مصيفه مشياً على قدميه ساعاتٍ من الشياح، “ليناقشه ويستمع إلى آرائه”.

علمانيّة عربيّة وتكفير

عن العدد الثاني (كانون الثاني، 1910) من مجلّة “الكليّة” التي كانت تُصدرها الكلّية الإنجيلية السورية، ينقل معلوف أنّ “زهرة الآداب” أُسّست في ربيع 1908، وكان رئيسها الأول أمين أفندي قزما، فعرض في “الكلية” أهدافها، مشيراً إلى أنّ “الغربيين لا يفوقون الشرقيين في رحابة القوى الجسدية والعقلية، بل في القوى الأدبية”. ويعني أنّهم يتفوّقون في “احترامهم الحقَّ والنظام، وفي خضوعهم لحكم الأكثرية”. لذا أرادت “زهرة الآداب” تعزيز هذه “القوى” الثلاث التي “تعوز أهل الشرق”. ومن الموضوعات التي اهتمّت بها الجمعية وناقشتها: “التعصب الديني: أسبابه ونتائجه، التقليد وأثره، مستقبل سوريا، الشركات في لبنان، المرأة السورية، الوضع الاقتصادي في سوريا”. إلى جانب اقتدائها بالنموذج الغربي الديمقراطي الاجتماعي، تُظهر عناوين اهتمامات “زهرة الآداب” أنّها تدعو إلى حداثة تبتعد من التقليد وعصبيّات المجتمع الأهلي العضويّة. أمّا بروز “البلاد السورية” وليس لبنان وحده مداراً لاهتماماتها ومناقشاتها، فيتناسب مع تنوّع أعضائها الاجتماعي الطائفي. ومنهم، إلى مؤسّسها قزما ومحمد الزين وعبدالله الحاج، وديع غبريل وفيليب فرحات والشمّاس أنطونيوس بشير ويوسف حتّي. والتنوّع هذا يتناسب مع تنوّع بيئة الجمعية الحاضنة: طلاب الكلية الإنجيلية السورية ومدرّسيها الذين يشكّلون فئة من النخبة الثقافية والاجتماعية اللبنانية والعربية في عشيّات الحرب العالمية الأولى وبعدها.

ربّما كان الدعم الفرنسي لـ”الوطنية أو القومية اللبنانية” المحدثة وثيق الصلة بالثقافة السياسية الفرنسية، وبالثورة الفرنسية والشعبية التي أرست أركان السياسة واجتماعها على فكرة الدولة – الأمّة، وكيانها القومي والشعبي

إلى جانب هذه الفئة – الدائرة النخبوية المتنوّعة طائفياً في عضوية “زهرة الآداب” بتطلّعاتها وأهدافها الديمقراطية المحدثة، نشأت في الكليّة إيّاها جمعية “العروة الوثقى” سنة 1918. شكّل مؤسّسوها وأعضاؤها فئة – دائرة نخبوية مختلفة في تجانسهم الاجتماعي الطائفي. لقد كانوا في غالبيّتهم الساحقة من أبناء العائلات المدينية اللبنانية والعربية السنّيّة. ويورد منهم أمجد ذيب عنما السوري في كتابه “جمعية العروة الوثقى: نشأتها ونشاطاتها” (منشورات رياض الريس ببيروت، 2002، تقديم أنيس صايغ الفلسطيني) أسماء مؤسّسيها: محيي الدين النصولي (بيروتي)، إبراهيم الدادا (سوري بيروتي)، أديب مظهر (مصري، ربّما)، ورشدي الجابي (سوري أو عراقي). وإلى اسم الجمعية الذي يحيل إلى التراث الإسلامي، كانت غاية “العروة الوثقى أدبية لغوية، وتحوّلت منبراً ثقافياً وفكرياً لطلاب ميولهم قومية عربية أدبية تراثية، واتّسمت نشاطاتها بنفحة خطابية حماسية، غايتها التذكير بماضي الأمّة العربية الإسلامية المجيد”. وعلى الرغم من أنّ عبدالله الحاج و”زهرة الآداب” كانا عربيَّيْ الهوى والتطلّعات، إلى جانب دعوتهما إلى التحرّر و”الاستقلال عن الاحتلال العثماني”، ظلّ الحاج “حذراً حيال العروة الوثقى ونشاطها المتّسم بالخطابية والعاطفية وتمجيد الماضي، ويدعو جهاراً إلى العلمانية في بيئته الأهليّة التقليدية المحافظة”.

إثارة حفيظة رجال الدين

يروي محمد كزما أنّ دعوته تلك “أثارت حفيظة رجال الدين في بيئته (الغبيري)، فقاموا بحملات تحريضية عليه وعلى أستاذه محمد الزين. وفي نهار جمعة من عام 1921، وصل فجأة من مدينة صور رجل الدين والمجتهد الشيعي الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين إلى جامع الغبيري” القريب من منزل آل الحاج، و”ألقى خطبة في المصلّين” من أهالي القرية الساحلية، علماً أنّ شرف الدين “نادراً ما كان يغادر مدينته صور” في جبل عامل. وممّا جاء في خطبته: “أتعلمون ما هي العلمانية؟ إنّها تتعارض مع الأديان السماويّة كلّها، وخاصة الدين الإسلامي. إنّها الكفر بعينه. ومن هو رئيس دعاتها الملقّب بالمستر زين؟ إنّه منحرف. ومن هو هذا المدعوّ عبدالله الحاج؟ إنّه أيضاً منحرف. ومثلهم كلّ من يمشي تحت علمهما ويتقبّل مبادئهما. لذلك أقول لكم حاربوهم. فمن يحاربهم يخدم الإسلام، ويغنم أجر الدنيا والآخرة”.

إذاً، لم يرُق لعبدالله الحاج نشاط “العروة الوثقى” وخطابتها عن الأمجاد العربية والإسلامية. لكنّ مذهبه “العلماني والعربي الديمقراطي” عرّضه لِما يشبه “التكفير” في لغة شاعت لاحقاً في مذهب جماعة “الإخوان المسلمين” الذي يريد استعادة صفاء العقيدة الأوّل وأمجاد الإمبراطورية الإسلامية وخلافتها. ولهذا التكفير، السنّيّ المصدر، مكافئ شيعي جسّده شرف الدين من على منبر مسجد الغبيري الذي أذاع منه “حزب الله” بيانه التأسيسي إلى “أمّة المستضعَفين في الأرض” سنة 1985، أي بعد 64 سنة على خطبة رجل الدين الشيعي الصوريّ العامليّ.

“التكفير” في الغبيري سابق على محيط دارة محسن سليم، وابنه المقتول غيلةً، لقمان، صاحب “دار الجديد”. وللصدفة فإنّ كتاب لمياء المبيّض الذي يستعرض كيف كفّر الإمام شرف الدين النائب الحاج، نشرته دار الجديد

صائب سلام يحرّض على الغناء

قد لا تكون بلا دلالة في هذا السياق الحادثة التي رواها محمد كزما ونقلها معلوف: طلاب مسلمون ومسيحيون أقدموا نهارَ أحدٍ من عام 1921، أثناء قدّاس في كنيسة الجامعة الأميركية، على افتعال شغب يصفه كزما بـ”الهزليّ”: “بدل إنشادهم التراتيل الدينية، راحوا يردّدون الأغنية الشعبية الحديثة العهد آنذاك “طلعت يا محلا نورها الشمس الشموسي”. حقّقت إدارة الجامعة في الحادثة، فتبيّن أنّ المحرّضين هما الطالبان صائب سلام وموسى الزين شقيق المستر زين المدرّس المشرف على شؤون الطلاب، فاقترح طرد المحرّضين وصدر قرار عن مجلس الأساتذة بذلك. لكنّ تدخّل الوجيه البيروتي أبي علي سليم سلام، والد صائب، حال دون تنفيذ القرار”.

في حال كان تحريض المحرّضين المسلمين ينطوي على دوافع طائفية، فلا بدّ للأغنية وطابعها ولروح الشباب المتخفّفة من هيبة قداسة التراتيل الدينية، وكذلك استجابةُ طلّابٍ تلك الروح، واستجابة إدارة الجامعة طلبَ الوجيه البيروتي، لا بدّ لهذا كلّه من أن يشي بما ينجم عن اختلاط طلّاب من بيئات طائفية متنوّعة في ذلك الوقت.

التربيتان اليسوعيّة والبروتستانتيّة

تزامناً مع نشأة “زهرة الآداب” و”العروة الوثقى” المختلفتَي الأهداف والتطلّعات في بيئة الكلية السورية الإنجيلية النخبوية المختلطة طائفياً، كانت هناك بيئة نخبوية أخرى في جامعة القدّيس يوسف اليسوعية في بيروت. وكان طلاب هذه البيئة ومدرّسوها من المسيحيين في معظمهم، والموارنة خصوصاً. أمّا التطلّعات الغالبة فيها فكانت الدعوة إلى “الفكرة اللبنانية” و”القومية اللبنانية” وإنشاء “وطن قومي لبناني” محوره أو عماده الاجتماعي والسياسي هم المسيحيون اللبنانيون. وكانت النخبة اليسوعية بشبكاتها التعليمية الإرسالية ما قبل الجامعية، واسعة الحضور وقويّته، وعلى صلة حميمة وعضويّة بالمجتمع المسيحي الماروني وبتطلّعاته في لبنان. وكان لدى تلك النخبة المسيحية مشروع سياسي “وطني لبناني” له سماته التاريخية وملامحه الاجتماعية، وطموحه الاستقلال عن سوريا أو بلاد الشام والبلدان العربية، وسنده القوّة الفرنسية الدوليّة.

مقارنة بهذه البيئة النخبوية في مؤسّسات التعليم اليسوعي، كانت النخبة الثقافية في مؤسّسات التعليم الإنجيلي البروتستانتيّ وجامعته الأميركية السورية في بيروت، شديدة التنوّع بمصادرها الاجتماعية الطائفية والبلدانية، ويغلب عليها المسلمون والمسيحيون الأرثوذكس والمتحوّلون منهم إلى البروتستانتيّة إبّان توسّع بعثاتها التبشيرية والتعليمية في بيروت ونواحي جبل لبنان المختلطة طائفياً مسيحياً وإسلامياً في المتن وعاليه، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت الرابطتان السورية والعربية، وليس اللبنانية، هما الغالبتين في بيئة طلاب التعليم البروتستانتي. لكنّ هاتين الرابطتين، أي السورية والعربية، كانت جغرافيا كلّ منهما الاجتماعية والبلدانية والسياسية متقطّعة، مبعثرة وغائمة، وتعوزها القاعدة “الشعبية” الأهلية والعضوية المتماسكة، التي توفّرت لـ”الوطنية اللبنانية” المسيحية المارونية بدعم فرنسيّ.

إقرأ أيضاً: كنيسة المهد الفلسطينية في كتاب جديد: العمارة والتاريخ والتراث

ربّما كان الدعم الفرنسي لـ”الوطنية أو القومية اللبنانية” المحدثة وثيق الصلة بالثقافة السياسية الفرنسية، وبالثورة الفرنسية والشعبية التي أرست أركان السياسة واجتماعها على فكرة الدولة – الأمّة، وكيانها القومي والشعبي. وهذا على خلاف الثقافة السياسية البريطانية والأميركية، البروتستانتية المصدر، في ثورتها على سلطان الإكليروس في الكنيسة الكاثوليكية وعلى البابوية، وإرسائها مفهوم الضمير الفردي أو الشخصي الحرّ المبنيّ على علاقة الكائن الفرد بالخالق والمسيح والإنجيل والدولة والعمل بلا وسائط من الجماعة وقيمها وتقاليدها ومؤسّساتها. وقد تكون هذه الثقافة البروتستانتية، إضافة إلى هلامية الرابطتين السورية والعربية وتقطّع أوصالهما الجغرافية والبلدانية، من العوامل التي جعلت النخبة المحلّية المشرقية المتعلّمة في الإرساليات البروتستانتية بلا عصب أو عصبية قومية، عضوية وشعبية وأهليّة جامعة ومتماسكة.

لكنّ الثابت أنّ “التكفير” في الغبيري سابق على محيط دارة محسن سليم، وابنه المقتول غيلةً، لقمان، صاحب “دار الجديد”. وللصدفة فإنّ كتاب لمياء المبيّض الذي يستعرض كيف كفّر الإمام شرف الدين النائب الحاج، نشرته دار الجديد، التي لا تزال إلى اليوم في الغبيري، وتدفع ثمن “التكفير”، المنبعث من المساجد.

* نشر كتاب “ليلى… أو معنى أن تكون في غير بيتك” في “مؤسسة دار الجديد” بدارة محسن سليم بجبل لبنان عام 2022، وحرّره وشكّله قلم دار الجديد. وهو سيرة عائلية لآل الحاج اللبنانية في الغبيري بضاحية بيروت الجنوبية. لكنّ عبدالله الحاج (1899 – 1975) النائب في البرلمان اللبناني (1951 – 1953) وخال الراوية المولودة في الغبيري سنة 1943، هو متن هذه السيرة ومحورها.

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…